
دكتور محيي الدين عميمور: هل كانت هزيمة أم مجرد نكسة؟
دكتور محيي الدين عميمور
كنت سأعتذر عن كثرة تناولي منذ 1967 لذكرى الخامس من يونيو، ثم تراجعت لأنني وجدتُ أن مواصلة استرجاع الأحداث على ضوء ما كشفته الأيام وأظهرته الشهادات المتتالية وأبرزته الوثائق المصرح بعرضها هو الموقف السليم لمن يريد الاستفادة من الأحداث التاريخية، بعيدا عن خطب التأبين أو عن ترديد وقائع الأحداث ببغائيا، سواء للتحسر أو للتفاخر.
وكان يقيني هو ضرورة دراسة ما حدث ليُستفاد منه بفهمه وتحليل عناصره وتكييف نتائج الأمس مع ممارسات اليوم وتوقعات الغد.
وسنجد عند الوقفة التحليلية البعدية لأحداث ذلك الأسبوع الأسود وعلى ضوء الأضواء التي سلطت عليه عبر السنوات الماضية عددا من المعطيات التي أتصور أنها قد تغير إلى حد ما بعض الاستنتاجات التي كنا وصلنا لها، أو التي “أُريد” لنا أن نصل لها ودماء الجروح لم تجف بعد.
وكمثال أبدأ به لأنه كان مثار معظم التعليقات التي قد يبدو أن بعضها كان تصفية حسابات تعوزها العفة السياسية، وأعني بالمثال استعمال تعبير “النكسة” بدلا من تعبير “الهزيمة”، برغم أنه لم يكن سرّا منذ الأيام الأولى أن استهجان تلك التسمية كان غالبا بهدف الإساءة لمن استعمله وهو الأستاذ محمد حسنين هيكل، والإساءة بالتالي للزعيم الذي اعتبرت التسمية محاولة لتخفيف مسؤوليته عن الهزيمة.
وفي حدود ما صرح به هيكل بعد ذلك فإن الرئيس عبد الناصر لم يكن متحمسا للتسمية التي اختارها وهو يُعدّ خطاب التنحّي الشهير، ولكنني، وأعترف بأنني أحكّم هنا مشاعري الذاتية، أتصور أن أول من تصورتُ أنه تفاعل مع التسمية هو الرئيس الجزائري هواري بو مدين الذي سارع بالاتصال هاتفيا بالرئيس المصري بعد إذاعة الخطاب ليطالبه بألا يترك موقعه، ثم ليتصل ثانية صباح اليوم التالي بهيكل ليقول له ما صرح به في خطاب جماهيري من أن الأمة العربية لم تهزم لأنها لم تضع كل إمكانياتها في المعركة، والتي لا تعني خسارتها أن الأمة خسرت الحرب.
ويمكن اليوم أن أتخيل بأن استعمال الرئيس المصري لكلمة “الهزيمة” في خطاب التنحي، والذي كنت تناولته هنا منذ عدة أسابيع متوقفا عند تعبيرات رأيتها ملتبسة، أن الاعتراف بالهزيمة معناه أن الرئيس المتنحّي يطلب ضمنيا ممن يخلفه أن يلتزم بتبعات الهزيمة، تماما كما فعل المارشال الفرنسي “فيبيلب بيتان” إثر انهيار فرنسا في 1940 أمام “البليتز- كريغ” الألماني (الحرب الصاعقة أو البرقية).
وأعترف أنني هنا متأثر بالنظرة الطبية لمعنى كلمة “النكسة” ((RECHUTE وهي تنمّرٌ مفاجئ لحالةِ مرضية لا يُلغي الأمل في الشفاء عند تلقي العلاج اللازم، وهو، إذا طبقناه على التطورات التي عشناها، يفسر حرب الاستنزاف الرائعة التي استرجع فيها الجيش المصري ثقته بنفسه، وكذلك النتائج الأولى لحرب أكتوبر 1973، وبالطبع قبل أن يدخل هنري كيسنجر على الخطّ.
ويأتي هنا أمرٌ آخر كشفته الأيام ومذكرات من عاشوا الأحداث أو تابعوها، وهو استعمال تعبير “حرب الأيام الستة”، في حين أن الحرب حُسمت في خمسة أيام أو نحو 120 ساعة، وتم استعمال تعبير الأيام الستة بتوجيه حاخام إسرائيلي، أراد أن يكون ذلك تخليدا للأسطورة اليهودية عن الأيام الستة التي خلق الله فيها الأرض ثم استراح في اليوم السابع !!.
وأبرز رسوخ ذلك العنوان “المُبتكر”، واستعماله على نطاق واسع إلى درجة أنه أصبح عنوانا كتب ومقالات كثيرة، مدى النفوذ الهائل للصهيونية على وسائل الإعلام الدولية.
غير أن أهم ما كشفته الأيام والدراسات المتتالية لمجريات الحرب في 1967 هو أن ما حَسَم النتيجة لصالح العدوان الإسرائيلي لم يكن تدمير الطيران المصري في الساحات الأولى من يوم 5 جوان، وبرغم أنه كان صاعقة أصابت القيادات السياسية والعسكرية في مصر وأنتجت وضعية شلل رهيب، لعله لم يكن مؤثرا بدرجة هائلة على الساحة العسكرية في اليومين الأولين.
ولن أملّ من القول إن القيادة العسكرية المصرية، وقيادة الطيران على وجه الخصوص، تتحمل المسؤولية الأولى في التقصير الذي أعطى طائرات العدو الـ500 فرصة تدمير القوة الجوية المصرية، وهو ما يمكن أن نستنتج منه ما تأكد فيما بعد وسبقت الإشارة له من أن القيادة العسكرية لم تتفاعل إيجابيا وعمليا مع تحذير الرئيس المصري يوم 2 يونيو، وأنها كانت تعتبر العملية كلها مجرد مظاهرة سياسية، وهو ما أبرزه استعراض القوات التي سترسل إلى سيناء عبر شوارع العاصمة المصرية.
وهنا يأتي العنصر الرئيسي الذي حسّم المعركة لصالح العدو الإسرائيلي، وهو نتائج القرار الذي اتخذه المشير عبد الحكيم عامر مساء اليوم الثاني من بدء العدوان، أي إصدار الأمر للقوات المصرية بالانسحاب من سيناء إلى غرب قناة السويس، وأن يتم الانسحاب في ليلة واحدة هي ليلة 6/7 يونيو.
ويتضح الآن أن القائد العام للقوات المسلحة حاول تكرار الإنجاز الذي تم في 1956 وتحقق به إنقاذ حجم كبير من القوات المصرية، رغم أن عامر كان ضد ذلك الانسحاب، وهكذا كان أكبر خطأ ارتكبته القيادة السياسية المصرية هو عدم إبعاد المشير عن مسؤولية كانت أكبر منه بكثير، وبغض النظر عن أنه كان ضابطا لا شك في وطنيته وإخلاصه، لكن منطق الصراع مع العدو الإسرائيلي كان يرفض أن تترك مسؤولية مواجهة قيادات عسكرية إسرائيلية خبرت الحرب العالمية بكل ظروفها لضابط رُفع، لظروف سياسية، من رتبة رائد إلى رتبة “فيلد مارشال”، وهو لم يعرف كلية حربية عالمية، ولم يجتز دورة تدريبية واحدة تضعه في مصاف روميل ومونتغمري وآيزنهاور، وحتى عزرا وايزمان وآرييل شارون، وكان، كما رُوِيَ، يعيش أزمة عائلية من المؤكد أنها أثرت على قراراته.
كان قرار المشير عبد الحكيم عامر في ليلة السادس من يونيو والذي أصدره بدون علم الرئيس عبد الناصر وبدون استشارة اللواء محمد فوزي، الذي كان مكتبه على بعد خطواتٍ منه، هو الكارثة الكبرى التي حسمت الحرب لصالح العدو الإسرائيلي، ويكفي أن نتخيل وضعية الارتباك والفوضى وانهيار المعنويات عند ما يقرب من 160 ألف مقاتل تضمهم ستة فرق عسكرية يُطلب منهم أن يغادروا مواقعهم في ليلة واحدة.
وتقول المعلومات التي توفرت اليوم بأن العدوّ الإسرائيلي فوجئ بما لم يكن ينتظره، ويروي المؤرخ “مايكل إيروين” أن مدير المخابرات الإسرائيلية “أهارون ياريف” لم يصدق في البداية أن القوات المصرية التي لم تكن في وضعية انهيار عسكري تترك مواقعها بدون مبرر قتالي.
كانت الخطة الإسرائيلية انتظار نتائج الضربة الجوية لتنطلق في حالة نجاحها لاحتلال غزة ثم التقدم في سيناء إلى ما لا يتجاوز منطقة جبل “لبنى”، وعلى أساس أن القوات المصرية لن تتخلى عن منطقة المضايق، لكن الانسحاب المصري وما نتج عنه من فوضى وتكدس للدبابات والمركبات العسكرية في الممرات المتجهة نحو قناة السويس كان فرصة للطيران الإسرائيلي ليمارس انتقامه الحقود من القوات المصرية المنسحبة، ومن الجنود الذين اختلت معنوياتهم وهم يؤمرون بالتخلي عن مواقع حصينة ارتبطوا بها عمليا وروحيا وكانوا قادرين على التمسك بها والدفاع عنها إلى حدّ كبير، حتى برغم انعدام الغطاء الجوّيّ.
ويتوجه الرئيس المصري فور علمه بقرار الانسحاب في نفس الليلة إلى مقر القيادة العامة للقوات المسلحة وهو يدرك خطورة تكرار ما عرفته حرب السويس لاختلاف المعطيات الميدانية، ويجد هناك أن المشير كان في وضعية انهيار (رُويَ في ما بعد أنه حاول الانتحار) وهنا، ولتدارك الموقف، يصدر أمر للفرقة الرابعة المدرعة بالتراجع عن الانسحاب، لكن الضرر الأكبر كان مما لا يمكن إصلاحه برغم مواقف رائعة للعديد من الضباط والجنود، ومن بينهم الفرقة التي كان يقودها الفريق سعد الدين الشاذلي.
وأنا لا أدعي أنني مؤرخ لأن المؤرخ هو من لا يستعمل ضمير “أنا”، كما أن ثقافتي العسكرية لا تختلف عمّا يفهمه طفل في العاشرة من قصائد المعلقات، لكنني كمجرد قارئ للتاريخ، وعلى ضوء كل ما قرأته وسمعته وتابعته، أجرؤ على الاستنتاج بأن الهزيمة الفعلية في حرب يونيو حدثت نتيجة لأمر الانسحاب الأحمق، الذي تجاهل من بين ما تجاهله أن الانسحاب عندما يكون ضرورة عسكرية يمكن أن يكون إنجازا شجاعا ورائعا ينقذ القوات المحاربة من خطر التدمير إذا تم بعيدا عن الارتجال والعشوائية وتحت قيادة عسكرية واعية ومتمالكة لأعصابها ومدركة لأهمية توعية القوات المنسحبة بأنها تتراجع لكي تنقض من جديد، كما حدث في انسحاب القوات الألمانية بقيادة الجنرال روميل بعد هزيمته في العلمين عام 1942.
ويبقى في مجال الاستنتاجات أمر أراني مضطرا للتوقف عنده، وهو أن إسرائيل التي كانت وعدت واشنطن بالابتعاد عن الأردن لم تحترم ما وعدت به، وحاولت التهرب منه بقنبلة مكتب الملك حسن لاغتياله وللتخلص من ضغوط الولايات المتحدة التي كانت تريد حمايته، وهي نفس الضغوط التي جعلت إسرائيل تهاجم باخرة” ليبيرتي” التي كانت تتنصت على مجريات الحرب في مياه المتوسط، وتكتشف أن إسرائيل تتجاوز الحدود التي تم الاتفاق عليها مع الحليف الأمريكي.
وسيثبت التاريخ أن إسرائيل لم تحترم يوما ما التزمت به وعاهدت عليه، وبأن الولايات المتحدة الأمريكية كانت وستظل مرتبطة عضويا بالكيان الصهيوني، بفضل وحدة المسار التاريخي لتكوين الدولة الذي اعتمد على إبادة السكان الأصليين، وبتأثير الأساطير التوراتية والإنجيلية، ناهيك من المصالح الاستراتيجية، نفطا وأموالا ونفوذا وغرورا إقليميا.
ونجد هنا كم كان الرئيس أنور السادات طيبا إلى حدّ السذاجة وهو ينتظر الوفاء من العدوّ الصهيوني، متناسيا، وهو يحمل لقب الرئيس المؤمن، ما جاء في سورة البقرة من تلاعب لليهود مع ربّ العزة.
وهذا كله ما يجب أن يتوقف عنده الجيل الصاعد، فلا يرتكب ما فعلناه، ليتفادى ما عانيناه ولا يعيش ما جنيناه.
كاتب ومفكر ووزير اعلام جزائري سابق
ندرك جيدا أنه لا يستطيع الجميع دفع ثمن تصفح الصحف في الوقت الحالي، ولهذا قررنا إبقاء صحيفتنا الإلكترونية “راي اليوم” مفتوحة للجميع؛ وللاستمرار في القراءة مجانا نتمنى عليكم دعمنا ماليا للاستمرار والمحافظة على استقلاليتنا، وشكرا للجميع
للدعم: