
تخوض السوبرانو السورية لينا شاماميان تجربة مسرحية غنائية فريدة من نوعها من خلال الميوزيكال «أسمهان»، الذي يُعرض يومي 16 و17 يونيو (حزيران) الحالي على خشبة مسرح «بيكوك» في العاصمة البريطانية لندن، من تنظيم «إي. إم برودكشن» للإنتاج الفني.
تعيد شاماميان عبر هذا العمل إحياء واحدة من أكثر الشخصيات النسائية إثارة للجدل في التاريخ الفني العربي: أسمهان، الاسم الفني للأميرة آمال الأطرش.
تُقدَّم المسرحية بوصفها رحلة درامية موسيقية تتقاطع فيها السيرة الذاتية لأسمهان مع تجارب شاماميان الشخصية، لتسلط الضوء على تمزقات امرأة جمعت بين الموهبة الاستثنائية والمأساة، بين المجد الفني والانكسار الإنساني، في سرد فني يعيد قراءة الأسطورة بعيون معاصرة.
قراءة فنية وشخصية
لا تسعى شاماميان إلى تقديم أسمهان بوصفها أيقونة من الماضي فحسب، بل أيضاً امرأة تُشبه كثيرات من نساء الحاضر، لا سيما السوريات اللواتي اختبرن المنفى والانقسام الداخلي. تقول في حديثها لـ«الشرق الأوسط»: «إن الانتقال بين الأوطان، والعيش ضمن أقلية في بلد ما، وتحمُّل عبء تمثيل العائلة… كلها تجارب عشتها بنفسي، ووجدت فيها صدى لما عانته أسمهان».
في بناء الشخصية، اعتمدت شاماميان على مصادر متعدِّدة، أبرزها سلسلة سعد الله آغا القلعة الوثائقية التي درست فيها التحليل الموسيقي والسياق التاريخي لصعود أسمهان. وتضيف: «قناة آغا القلعة على (يوتيوب) تُعد من أهم المراجع الثقافية الموسيقية في سوريا، وقد منحتني فهماً أعمق لعلاقتها بفريد الأطرش، كانت مسيرتها قصيرة، إلا أنها تميزت بتأثير قوي وبصمة لا تُنسى».
ماذا تقدم المسرحية؟
تتناول المسرحية الفترة الأخيرة من حياة أسمهان، بما في ذلك كواليس التحضير لحفلها الأخير، وأحلامها المؤجلة، وعلاقاتها المتشابكة والمعقدة. تسعى شاماميان عبر هذا العمل إلى إبراز التناقضات التي عاشتها أسمهان: بين حبها العميق للفن ونفورها من الشهرة، وبين التزاماتها العائلية وحاجتها العميقة للحرية.
وتوضح الفنانة أن التحدي الأكبر تَمثَّل في ضيق الوقت المُخصص للتحضير: «وصلت إلى لندن قبل العرض بأسبوع فقط، وكان عليّ أن أوازن بين البروفات والأداء الغنائي والتمثيلي المكثف».
أما الصعوبة الأبرز، فكانت في أداء أغنيات أسمهان نفسها. وتعلّق شاماميان: «غناؤها لا يُقلَّد، بل يُفهم. طريقتها في التنقل بين طبقات الصوت، وقدرتها على المزج بين الطرب العربي والغناء الكلاسيكي، تجعلان منها مدرسة قائمة بذاتها».
لمواجهة هذه التحديات، استعانت شاماميان بخيالها التحليلي، وبشخصيات مغنيات من جيل أسمهان، إلى جانب تحليل الأداء الصوتي والانفعالي في أغنياتها. وتشير إلى أن أسمهان لم تترك خلفها مقابلات إذاعية أو تلفزيونية كافية، مما زاد من صعوبة تكوين صورة دقيقة عنها.
لكنها ترى أن هذا الغياب نفسه وفّر لها هامشاً للإبداع، إذ تقول: «المسرح لا يعرض حقائق تاريخية، بل يطرح أسئلة. هدفي لم يكن توثيق حياة أسمهان بدقة أرشيفية، بل تقديم رؤيتي الخاصة لهذه الشخصية المركبة».
أغنية خاصة وأثر التجربة
كتبت شاماميان أغنية جديدة ولحّنتها خصيصاً لهذا العمل، مستوحاة من أجواء حياة أسمهان، وتحمل بصمة وجدانية تُعبّر عن الصراع بين الحب والخذلان. «هذه الأغنية تُشبه في طابعها بعضاً من أعمال فريد الأطرش، وهي تُلخص كل ما أردت قوله عن أسمهان وعن النساء الفنانات اللواتي جمعن بين الإبداع والضعف، بين الوهج والعزلة».
المشهد الأكثر تأثيراً في المسرحية، تقول شاماميان، كان حين يهاجم الجميع أسمهان، ويتركونها وحيدة. أما الأغنية الأقرب إليّ، فهي تلك التي كتبت كلماتها خصيصاً لهذا العمل، وهي مستوحاة من حياة أسمهان وصوتها، ومن علاقة صوتها بألحان فريد. كتبتها لتحكي عنها بطريقتي، وفيها وصف دقيق لحياتها التي جمعت بين المجد والفراغ، وبين العظمة والوحدة.
أما عن أثر التجربة على مسيرتها الشخصية، فتوضح: «لم تُغيّر هذه التجربة نظرتي للموسيقى الكلاسيكية، لكنها عمّقت علاقتي بالغناء الطربي. درست كل لحن وعُربة ونفَس غنائي لأسمهان، وتعلمت كيف يمكن لصوت واحد أن يحمل قصة كاملة».
رموز خفية وصراعات معاصرة
تشير شاماميان إلى أن زمن أسمهان، رغم ما حمله من صراعات، كان يحمل عمقاً ثقافياً وإنسانياً نفتقده اليوم. تقول: «رغم اتساع هامش التعبير الآن، كان لزمن أسمهان إحساس بالحياة وقراءات أعمق. أشعر أحياناً أن العالم يدور في دوائر تعيد مشكلاتنا بأشكال جديدة، لكنها بإحساس أقل بالحيوية.»
تضيف أن المجتمعات العربية في ذلك الزمن كانت أكثر انفتاحاً وتواصلاً مع الثقافة الغربية، قبل أن تعزلنا الطفرات التقنية والمعلوماتية التي فرّقت بين الشعوب بدل أن تقربها.
كما تلفت إلى أن أبرز التحديات التي واجهت الفنانين العرب آنذاك تمثلت في الوجود الاستعماري وتأثيره على حرية الفن والفنانين. وكانت الصحافة تملك سلطة شبه مطلقة، عكس اليوم حيث منحت منصات التواصل الاجتماعي الفنانين مساحة أوسع للتعبير.
وتعرب شاماميان عن أملها في أن يلقى العرض صدى واسعاً لدى الجمهور العربي في لندن، لا سيما بين أولئك الذين عاشوا تجربة الشتات أو فقدوا الاتصال بالثقافة العربية الأصيلة. وترى أن سيرة أسمهان مرآة لقضايا تتجاوز الفن لتلامس مفاهيم الهوية والحرية والتمكين.
وتعلن أيضاً عن إطلاق ألبومها الجديد «صحاب» في 26 يونيو بالقاهرة، مؤكدة أن العمل الفني لن يتوقف، وأنها ستواصل مسيرتها الفنية المستقلة التي توازن بين الحداثة والأصالة.
وتختم بالقول: «أسمهان كانت امرأة سبقت زمنها، تماماً كما نساء كثيرات لا تزال أصواتهن تنتظر أن تُسمَع. ربما كانت هذه المسرحية خطوة صغيرة لفتح آذان وقلوب جديدة لهن».