
أ. خالد شبلي: العدوان الصهيوني على إيران ووهم “الصبر الاستراتيجي”: هل تتغير العقيدة النووية الإيرانية؟
أ. خالد شبلي
” إن الشرق الأوسط مقبل على إعادة رسم موازين القوى، ومن لا يملك أدوات الردع، لن يكون له موقع فاعل في الخريطة الجديدة.” أ. خالد شبلي
مقدمة:
في واحدة من أكثر اللحظات حساسية في تاريخ الشرق الأوسط، حيث تتقاطع التوترات الجيوسياسية مع صراعات القيم والمصالح، أقدم الكيان الصهيوني فجر الثالث عشر من يونيو 2025 على هجوم عدواني سافر ضد أراضي الجمهورية الإسلامية الإيرانية، لم يكن ما جرى اشتباكًا حدوديًا أو عملية استخبارية محدودة، بل عملاً عسكريًا واسع النطاق استهدف العمق الاستراتيجي الإيراني، بما في ذلك منشآت نووية، مقار عسكرية حساسة، ومناطق مدنية، بل واغتيالًا مباشرًا لقيادات عليا في الجيش والحرس الثوري الإيراني وعدد من أبرز العلماء النوويين الإيرانيين.
هذا التصعيد الحاد يطرح تساؤلًا جوهريًا: هل لا تزال استراتيجية “الصبر الاستراتيجي” التي انتهجتها طهران منذ سنوات تصلح لمواجهة عدوان وجودي؟ أم أن ما جرى يُعد نقطة تحوّل مفصلية تقتضي مراجعة شاملة للعقيدة الدفاعية، وربما النووية، الإيرانية؟
أولًا: توصيف العدوان وفق القانون الدولي
بحسب المعايير المعترف بها في القانون الدولي العام، يُعد العمل العسكري الصهيوني عدوانًا مكتمل الأركان. فقد عرّف القرار رقم 3314 الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة سنة 1974 العدوان بأنه: استخدام القوة المسلحة من قبل دولة ضد سيادة دولة أخرى، أو سلامتها الإقليمية، أو استقلالها السياسي، بما يخالف ميثاق الأمم المتحدة. (المادة 3/أ).
الهجمات الجوية الصهيونية على منشأة نطنز النووية، ومقار عسكرية سيادية، وعمليات اغتيال ضد أفراد يحملون صفة رسمية داخل الدولة الإيرانية، تدخل جميعها ضمن هذا التعريف، حيث تمّت دون قرار من مجلس الأمن أو سند من أحكام الدفاع الشرعي المباشر.
بل إنها تُشكّل انتهاكًا صريحًا للمادة 2/4 من ميثاق الأمم المتحدة، التي تنص على: يمتنع جميع الأعضاء في علاقاتهم الدولية عن التهديد باستعمال القوة أو استخدامها ضد السلامة الإقليمية أو الاستقلال السياسي لأي دولة.
كما أكدت محكمة العدل الدولية في حكمها الصادر عام 1986 في قضية نيكاراغوا ضد الولايات المتحدة الأمريكية، أن مفهوم الدفاع الوقائي أو الاستباقي لا يُعترف به كتبرير مشروع لاستخدام القوة المسلحة إلا إذا وقع “هجوم مسلح فعلي”، وهو ما لم يتحقق في هذا السياق.
بناءً على ذلك، يحق لإيران، استنادًا إلى المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة، أن تمارس حقها الطبيعي في الدفاع عن النفس، بشرط أن يكون الرد:
-فوريًا،
-متناسبًا مع حجم الضرر،
-موجَّهًا إلى مصدر التهديد.
ثانيًا: عقيدة “الصبر الاستراتيجي”… من الردع بالتروي إلى كلفة الانكشاف
على مدى العقدين الماضيين، تبنّت إيران ما يُعرف بـ”الصبر الاستراتيجي”، وهي عقيدة أمنية مرنة تقوم على ضبط النفس المباشر في مواجهة الاستفزازات العسكرية، مقابل الرد غير المباشر عبر أطراف حليفة في المنطقة (حزب الله، أنصار الله، الحشد الشعبي، وغيرها)، مع تركيز كبير على تطوير قدرات الدفاع الجوي والصاروخي.
غير أن هذا النهج، رغم ما وفّره من توازن ظرفي، كشف عن مأزق هيكلي في الرؤية الإيرانية للأمن القومي. فالصهاينة باتوا يدركون حدود هذا “الصبر”، ويستغلونه لفرض معادلات جديدة بقوة النار، في ظل غياب رد مباشر يُحدث أثرًا رادعًا.
والنتيجة: تحول العمق الإيراني إلى ساحة مكشوفة أمام الضربات الجوية، ما يهدد بتآكل مفهوم الردع ذاته.
ثالثًا: الرد الإيراني الممكن… بين مشروعية القانون وتردد القرار السياسي
من الناحية القانونية، يملك الجانب الإيراني المبرر القانوني الكامل للرد على العدوان، على أساس ميثاق الأمم المتحدة واجتهادات محكمة العدل الدولية. غير أن المسألة الأكثر تعقيدًا تكمن في البُعد السياسي الداخلي للقرار الإيراني:
-هل ستقرر طهران توجيه ضربة مباشرة إلى الكيان الإسرائيلي؟
-أم ستكتفي، كالمعتاد، برد عبر الحلفاء الإقليميين؟
-أم أنها بصدد تحوّل استراتيجي أعمق، يتجاوز تكتيكات الرد، إلى مراجعة العقيدة العسكرية الشاملة، بما في ذلك ما يتعلق بملف السلاح النووي؟
العدوان الأخير لم يضرب منشآت أو مواقع لوجستية فحسب، بل استهدف “العقل الاستراتيجي” للبرنامج الدفاعي والنووي الإيراني، ما يفتح الباب أمام تحول عقائدي حقيقي في المقاربة الإيرانية.
رابعًا: هل تُراجع إيران عقيدتها النووية؟
منذ سنة 2003، يستند الموقف الرسمي الإيراني إلى فتوى أصدرها المرشد الأعلى علي خامنئي بتحريم السلاح النووي، وقد وظّفت طهران هذه الفتوى كمرتكز ديني وسياسي يعزز مصداقية نواياها السلمية دوليًا.
لكن في ظل تطور الأحداث، والتعرض لاعتداءات وجودية، تطرح بعض الدوائر الاستراتيجية في إيران أسئلة محرجة:
-هل يمكن لهذه الفتوى أن تبقى مرجعًا ثابتًا إذا ما أصبحت الدولة مهددة فعليًا بالزوال؟
-هل من المنطقي الاستمرار في الامتناع عن امتلاك قدرات ردعية نووية في ظل انهيار منظومة الردع التقليدي؟
الخيارات المطروحة أمام إيران في هذه المرحلة هي:
امتلاك قدرة ردعية نووية غير مُعلنة (Ambiguous Deterrence)، على غرار سياسة “الغموض النووي” التي يتّبعها الكيان الإسرائيلي.
الانسحاب القانوني من معاهدة عدم الانتشار النووي (NPT) وفقًا للمادة 10 التي تتيح لأي دولة الانسحاب إذا ارتأت أن مصالحها العليا مهددة.
تسريع عملية تخصيب اليورانيوم إلى درجات تسليحية، كخيار تكتيكي لإجبار الخصوم على التفاوض من موقع قوة.
وبالتالي، لم يعد الحديث عن إعادة النظر في الملف النووي الإيراني محصورًا في دوائر مغلقة، بل صار سؤالًا مطروحًا في الخطاب السياسي والأكاديمي العلني.
خامسًا: نهاية وهم “الردع الهادئ” أو “التكتيكات المرحلية”
العدوان الصهيوني الأخير شكّل تغييرًا نوعيًا في قواعد الاشتباك الإقليمي، لم يعد الصراع محصورًا في الضربات بالوكالة أو المناوشات الحدودية، بل انتقل إلى استهداف مباشر لبنية الدولة.
في حال لم تُقابل هذه الضربة برد مكافئ في الحجم والنوعية، فإن الرسالة التي ستُفهم هي:
“يمكن ضرب إيران دون ثمن حقيقي”.
وهنا تكمن الخطورة: انهيار مفهوم الردع، وتحول إيران من قوة مهابة إلى خصم يمكن استنزافه دون خشية من العقاب.
الردع، في منطق العلاقات الدولية، لا يقوم على النوايا أو الفتاوى، بل على القدرة الفعلية على إلحاق ضرر مضاد يُعيد التوازن.
خاتمة: بين البراغماتية والعقيدة… هل حان وقت التحوّل؟
إيران تجد نفسها اليوم أمام لحظة مفصلية:
-إما أن تتمسك بعقيدتها الحالية، القائمة على الصبر الاستراتيجي والامتناع عن التصعيد المباشر، وتحمل نتائج ذلك على صعيد الأمن القومي،
-أو أن تنخرط في تحول جذري يُعيد صياغة معادلة الردع، ويضع حدًا لسياسة “الضربات دون رد”.
العدوان الصهيوني لم يكن مجرد حادث عابر، بل تحدٍ مباشر لمشروعية الدولة الإيرانية ومكانتها الإقليمية، واختبارًا لقدرتها على الدفاع عن أمنها القومي بالوسائل التي تراها مناسبة.
إن الشرق الأوسط مقبل على إعادة رسم موازين القوى، ومن لا يملك أدوات الردع، لن يكون له موقع فاعل في الخريطة الجديدة.
تنويه قانوني:
بموجب المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة، فإن لإيران الحق القانوني الكامل في الدفاع عن النفس، بما يشمل الرد العسكري المتناسب ضد من باشر العدوان، دون أن يُعد ذلك خرقًا للقانون الدولي ضمن إطار الضرورة والتناسب.
الجزائر العاصمة
باحث أكاديمي
ندرك جيدا أنه لا يستطيع الجميع دفع ثمن تصفح الصحف في الوقت الحالي، ولهذا قررنا إبقاء صحيفتنا الإلكترونية “راي اليوم” مفتوحة للجميع؛ وللاستمرار في القراءة مجانا نتمنى عليكم دعمنا ماليا للاستمرار والمحافظة على استقلاليتنا، وشكرا للجميع
للدعم: