
د. سلوى بزاحي: سفينة من ورق الواشي
د. سلوى بزاحي
سفينة من ورق طوتني أمي بخفة يد ذات مساء شديد الحرارة في الواحد والثلاثين من شهر أغسطس، شكلتني أمي من صلواتها المنبعثة من صالون منزلنا في دجى الليل لسبعة أشهر فأنا ابنة الأشهر السبع، صنعتني والدتي من نواياها النقية الصافية وأدعيتها الصادقة المحلقة كطيور نورس تعانق غيوم السماء، طوتني “زهية” كما يطوى الحرف في المصحف، كان طيا متقنا على مبادئ لا تهتز ومثل لا تتزعزع، وحين حانت ساعة الخلاص نفخت في داخلي روحا من مبادئها، وسحرا من طيبتها، وقالت لي: “أبحري كما علمتك يا سفينة الواشي لقد صنعتك ببراعة من ورق الواشي الياباني، ورق لا يمزق بسهولة رغم رقّته ولا يتأثر بالضجيج، لأنه خلق للهدوء، للفن، وللنقاء لا تخوني، لا تؤذي، لا تنكسري فلم تصنعي من الورق الرخيص الذي يبتل مع اول زخات المطر أبحري يا حبيبتي أبدعي وتألقي كنجمة مضيئة”.
دفعتني أمي برقة مكفكفة دموعها الى نهر “الغارون” لتبدأ حكاية التلميذة الغبية والهاربة من القسية ، ونهر “الغارون” أيها القارئ ليس نهرا يشق مدينة “بوردو” الفرنسية وحسب، بل يشقّ الروح أيضا، نهر جرى منذ الدهر الأول كما تجري الحكمة في قلب العاقل بهدوء وعمق وإصرار فهو لا يحيط بالمدينة كما تفعل الأسوار، بل يتغلغل بداخلها خالعا نعليه في أدب كزائر بيت يحفظ أركانه ويعشق زواياه ،يجلس في وسطها متربعا بين الضفتين كما يتربّع القلب بين جناحي عاشق، أجل ان “الغارون” لا يفصل المدينة… بل يكشف عن حقيقتيها ضفّة تنبض بالحياة، وأخرى تنصت للصمت.ضفّة تبني الجدران، وأخرى تبني التأمل.
وعلى كل جسر يمرّ الناس… وتمضي ظلالهم لكن “الغارون” لا يحتفظ إلا بالذين عبروا بقلوبهم، لا بخطواتهم. هو ليس نهرا فقط، بل حكمة مائلة على صفحة الماء، مرآة تري المدينة نفسها كما لم ترها من قبل جميلة حين تنظر إلى عمقها، وضالة حين تركض على سطحها، أبحرت على صفحة “الغارون” كحرف في رسالة منسية، أبحرت بين ضفتيه، أقرأ ملامح مدينة لا تنام إلا على ضجيج النبيذ، وأحلام العابرين ، مررت تحت جسر “بيير”، ذلك الجسر الذي يحمل صمت القرن التاسع عشر، حيث تتكئ الحجارة على بعضها كحكماء أنهكهم السرد، وفي كل قوس من أقواسه الأربعة عشر، كنت أسمع صدى دعاء أمي… يتردّد قائلا: “أبحري بعيدا يا سفينة الواشي”.
عانقتني “ضفّة شارترون” العتيقة بألوان منازلها الباهتة وعيون نوافذها المطلة على الماضي وهدهدتني واجهات “بوردو” الزجاجية عاكسة شفافية روحي ونقاء سريرتي، فأبحرت مزهوة بنفسي صوب “باسين آ فلو”، أين يصمت الماء فجأة، ليبدأ الفن بالكلام وحيث تنكسر الأضواء على سطح الماء كحقيقة منسابة من فم الصادق الطاهر وعند كل منعطف، كنت أخسر طبقة من الورق، لأكسب معنى جديدا، كل من رآني ظنني زينة طافية على سطح الماء، لكني كنت رحلة حقيقية، فكل موجة واجهتها وواجهتني، كانت تحديا حقيقيا لصلابة الورق الذي طوته أمي ذات مساء.
أنا زورق الواشي المطوي على المثل والمبادئ، المصنوع من الصدق والنقاء الفطري، لكنني حين نزلت جدول الحياة يا أمي اكتشفت أن الماء لا يعرف الرحمة، وأن التيار لا يقرأ النوايا، وأن الضفاف – كما الوجوه – ليست كما تبدو، اكتشفت أثناء رحلتي أيتها المعتكفة البتول أن هذا العالم لا يجيد العوم في مثلك أمي، ولا يأبه لصلواتك يا حمامة القران الكريم، أجل لا يكترث العالم لدعواتك أيتها العابدة الزاهدة بل يغرقها، ويسخر منها.
أمي الحبيبة دعيني أعترف لك على استحياء مقبلة قدميك، أعترف بأنني لعنت نفسي مليون مرة أثناء رحلتي، أجل لقد لمتك في كل ثانية مع كل صدمة وكل شرخ وجرج، لا بل سامحيني فقد شتمت براءتك مع كل نبض وعند كل خيبة أمل اعذريني يا روح روحي فقد لعنت الساعة التي طويتني فيها مع كل نفس حتى اختنقت، وسببت اللحظة التي ألقيتني فيها بين أحضان موج هائج غادر دون أن تعلميني فنون السباحة، وبراعة الغوص.
كيف طاوعك قلبك ايتها الأم الحنون على أن تلقي بقطعة من قلبك في هدوء وطمأنينة دون أن تعلميني كيف أتعرّف إلى الذئب المتربص متنكرا بجلد الحمل، ولا كيف أقرأ العيون الضاحكة وهي تتجهز في خسة لسن خناجرها، ما علّمتني أن الكلمات المتقاطرة عسلا سكاكين حادة تترصد بالطيبين لتنحرهم أضاحي في عيد الخيانة، ليتك علمتني أن بعض القرب مسافة، و أن الطيبة الخالصة ترهق صاحبها حين تكون بلا سياج، وأن النقاء يتّهم بالسذاجة… في محكمة القلوب المريضة، لما يا عمري درّبتني على الانسحاب في صمت ظنا منك ومني بأنه ترفع عن انحناءة اللوم و ضراوة القصاص.
لما أقنعتني أن السماح من شيم الكرام لما لم تعلميني أنه ضعف في زمن الشراسة وقوانين الغاب، أتعلمين أنني أبحرت عمرا وكلما اشتدت علي الطعنات وشدة الضربات انسحبت في صمت ظنا مني أن في ذلك رفعة وترفع، دون أن أنتبه الى أن الجبناء الغادرين يزدادون قوة بينما أزداد ضعفا، قدي قميصي من دبر وانظري الى ضربات السياط المعلمة على ظهري، شقي صدري و امعني النظر في الندبات المنحوتة على قلبي، اه يا أمي علمتني حلم أبي بكر ونسيت أن تعلميني شدة الفاروق عمر، فوجدت نفسي أربعينية منهكة في ثوب تلميذة فاشلة بمريلة ومحفظة، في عصر المعلمين الرويبضة المكرمين في ميادين النبل والشرف.
حتى “لا” الرفض والتمنع لم تعلميني كيف ألفظها، فأنا أجبن من أن أجهر بالرفض، علمتني كرم حاتم الطائي في زمن البخلاء الطامعين فطمع الجميع بي و غدوت فريسة سهلة يطلبها الصيادون في أروقة المؤامرات ،و كواليس الخطط الشيطانية، اه يا ست الكل لقد دخلت سنة 2025 منهكة خائرة القوى وقد أوجعتني قلوب، وأدمتني ألسنة، وجرحتني عيون أولئك الذين قربتهم الي و أدخلتهم مملكتي فتنكرت لي مدن وبيوت وأعين، أتعلمين بأن أكثر ما يحز في نفسي هو أنني عندما وصلت الى قاع محيط قلوبهم وجدت في قرارتها استخفافا بذكائي، واستضعافا لطيبتي، واستخفافا بحلمي، واستغلالا لعطائي فما أغباني وما أطيبك يا أم اليتامى.
اااااه يا حبيبتي أنظري الى حالي أنا الغريبة الجريحة القابضة على جرحها، أنا المنسحبة في صمت، أنا الزورق الممزق عند أقدام الخلجان، وهؤلاء قتلتي وقد تجمعوا حولي يطلبون روحي كما تتداعى الأكلة على قصعتها لأنني نار كأف وفارس بخف، بلا درع ولا سيف، انهم يتراقصون حولي في مكر وخبث أما أنا فقد أدرت ظهري وكفى و الصلاة على المصطفى، فرغم عظم الدروس التي علمتنيها الحياة لا أزال تلميذة خائبة تنأى بروحها عن مذلة اللوم ودمع العتاب وتؤثر الانسحاب على المواجهة فليتك ما طويتني ورقة بل نحتتني صخرة قاسية، أو شيدتني سفينة حربية بالحديد والنار، ليتك ما سقيتني عذوبة صوتك، ولا كرم أخلاقك، ليتك ما أرضعتني لبن الطيبة والتسامح، ألم يكن بإمكانك أن تعلميني مكر الثعالب وقسوة الجبابرة وخسة الأقزام، ألم تستطيعي أن ترضعيني سم الأفاعي، و تلون الحرباء عند كل موقف، ولغة المصالح تتصالح و عشق تملق أصحاب النفوذ وذووا الجاه، اه يا حبيبتي أي فروسية علمتني، أي أخلاق، أي رقة وأي …………….
لكن العالم يا زهية ليس صالونك المضاء بالآيات، ولا سجادك المفروش بالطمأنينة في محراب الصلوات، ولا هواء ليلتك الذي يخبّئ الأدعية بين نسماته، العالم يا أمي يشبه ركنا مظلما في حكاية قديمة…كلما أشعلت فيه شمعة، هبت ريح فأطفأتها، ثم لامك لأنك اثرت النور على العتمة، اليوم يا أمي صرت أعلم ما لم تعلّميه لي، علّمتني الخيانة أن أحرس قلبي فعلى أبوابه حرس وجنود ،علّمتني الضربات أن أقوم في هدوء، وأن أنفض الماء عن أطرافي… كما تفعل الزهرة بعد المطر، علّمتني الحياة أن النقاء لا يعني الغفلة، وأنه لا بأس إن تأخرت في الوصول، فالموج لا يربّي الزوارق الخفيفة… بل يكشفها، أبحر الآن يا زهية لا كما أردت تماما لكن كما يريد الله، خفيفة، ممزقة بعض الشيء، لكنني ما زلت “أنا رنا’ سفينة ورقية من صنع يديك، وفي كل لفة من جسدي، حروف من اسمك، وتراتيل وصلوات ودعاء.
ندرك جيدا أنه لا يستطيع الجميع دفع ثمن تصفح الصحف في الوقت الحالي، ولهذا قررنا إبقاء صحيفتنا الإلكترونية “راي اليوم” مفتوحة للجميع؛ وللاستمرار في القراءة مجانا نتمنى عليكم دعمنا ماليا للاستمرار والمحافظة على استقلاليتنا، وشكرا للجميع
للدعم: