حين يُصبح الضحك تهمة.. هند صبري في مرمى “الاجتزاء”

حين يُصبح الضحك تهمة.. هند صبري في مرمى “الاجتزاء”

منذ سنوات طويلة، اختارت الفنانة التونسية هند صبري أن تخوض رحلتها الفنية من قلب القاهرة، عاصمة الفن العربي. لم تكن مجرد فنانة عربية جاءت لتحقق شهرة، بل كانت – ولا تزال – أحد أعمدة المشهد الفني المصري. اندمجت في تفاصيله، شكّلت جزءًا من وجدانه، ووقفت أمام أعظم ممثليه ومخرجيه، لتصبح وجهًا مألوفًا على الشاشة المصرية، ومحبوبة من جمهور لم ير فيها يومًا سوى فنانة موهوبة تنتمي إليهم كما تنتمي لتونس الأم.

لكن الجدل الذي تفجّر مؤخرًا حول مقطع فيديو قديم يعود إلى عام 2015، أُخرج من سياقه وتم تداوله بشكل مبتور وموجّه، فتح بابًا عبثيًا للتشكيك في انتمائها، بل وتجاوزت بعض الأصوات حدود المنطق بالدعوة لترحيلها من مصر، وكأننا بتنا في عصر يحاسب فيه الفنان على مزاح عابر، ويُنتزع من كلامه ما يخدم هوى البعض على حساب الحقيقة.

الفيديو الذي أثار كل هذه الضجة لم يكن أكثر من لحظة خفيفة، داخل فعاليات مهرجان قرطاج السينمائي، حيث قدّمها الإعلامي باسم يوسف بطريقة مازحة، وقال للجمهور: “إنتوا بتقولوا عليها من تونس، وإحنا بنقول من مصر”، فردت هند مازحة: “مش تعملي مشاكل يا خويا، تونسية.. تونسية، مش ناقصة”، وسط ضحكات الحضور وتصفيقهم. الموقف كان واضحًا للجميع في حينه، ولم يُثر أي انتقاد وقتها، بل مر كجزء من أجواء الكوميديا التي يصنعها باسم يوسف باستمرار.

لكن بعد قرابة عقد من الزمن، يعود المقطع ليُستخدم كسلاح للنيل من فنانة لم تبخل يومًا بحبها للفن المصري، ولم تدّعِ في يوم من الأيام أنها تخلت عن جذورها، بل بالعكس، كثيرًا ما كانت تعتز بتعدد انتماءاتها، وتعتبره مصدرًا لقوة مشروعها الفني.

الذين سارعوا إلى الهجوم تناسوا أو تجاهلوا عن عمد، أن هند صبري تعيش في مصر منذ أكثر من عشرين عامًا، وتحمل عضوية نقابة المهن التمثيلية، وقدّمت أعمالًا شكلت جزءًا من الذاكرة الفنية للمصريين والعرب على حد سواء، من “عايزة أتجوز” إلى “الجزيرة” و”الفيل الأزرق”، وغيرها من المسلسلات والأفلام التي لا تزال راسخة في الوجدان الجمعي للمشاهد العربي.

والسؤال الأهم هنا: هل نُحاسب الفنانين اليوم على نواياهم؟ هل يُعقل أن تُدان ممثلة على جملة ساخرة قيلت قبل عشر سنوات، في حفل ساخر، أمام جمهور يضحك؟ وهل أصبح التضامن مع غزة تهمة؟ وهل من المعقول أن نختزل أكثر من عقدين من الإبداع والمشاركة الوجدانية والفنية في فيديو مقطوع من سياقه؟

الحقيقة أن ما تتعرض له هند صبري ليس معزولًا، بل يندرج ضمن موجة أوسع من محاولات “الاصطفاف الإجباري”، حيث يُطلب من الفنان أن يختار معسكرًا بعينه، وأن يقدّم فروض الولاء الإعلامي اليومي، وإلا تعرض لمقصلة “الغضب الإلكتروني” التي لا ترحم.

لكن هند لم تكن يومًا من هذا النوع. اختارت منذ البداية أن تكون حرة في موقفها، صادقة في تعبيرها، ومهنية في أعمالها. لم تُجامل، ولم تدخل في مهاترات، ولم تُعرف يومًا بمواقف مناهضة لمصر، بل على العكس، كانت دائمًا تقول بوضوح إنها مدينة لمصر بجمهورها الكبير وفرصها الفنية.

في لقاء سابق مع الإعلامية سمر يسري عام 2021، قالت هند بكل صراحة: “أنا تونسية الجنسية، لكني أعتبر نفسي مصرية الهوى والانتماء الفني. مصر احتضنتني، وفتحت لي أبوابها، وأنا جزء من هذا الإرث الفني الكبير، وهذا شرف لي”. وهذه ليست مجاملة إعلامية، بل موقف دائم تكرر على لسانها في عشرات المقابلات الصحفية والتلفزيونية.

وتُعد هند صبري من أكثر الفنانين العرب الذين عبّروا بشكل واضح ومتكرر عن دعمهم للقضية الفلسطينية ولقطاع غزة تحديدًا، سواء من خلال مشاركاتها في مبادرات إنسانية أو تصريحاتها العلنية عبر وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي. لم تكن مواقفها ظرفية أو استعراضية، بل جاءت دائمًا من منطلق إنساني عميق، ورغبة صادقة في التضامن مع شعب يتعرض لعدوان ممنهج وحرمان طويل من أبسط حقوقه.

وخلال السنوات الماضية، كانت هند حاضرة في أكثر من مناسبة لدعم فلسطين، وشاركت في حملات توعية وتبرعات إغاثية، وأطلقت رسائل تضامن صريحة، سواء عبر لقاءاتها الإعلامية أو على حساباتها الرسمية،