السفير الدكتور رجب السقيري: ماذا بعد فشل النظام الدولي أحادي القطبية؟ هل البديل حكومة عالمية بقيادة واشنطن.. أم فوضى عارمة تحكمها شريعة الغاب؟

السفير الدكتور رجب السقيري: ماذا بعد فشل النظام الدولي أحادي القطبية؟ هل البديل حكومة عالمية بقيادة واشنطن.. أم فوضى عارمة تحكمها شريعة الغاب؟

السفير الدكتور رجب السقيري: ماذا بعد فشل النظام الدولي أحادي القطبية؟ هل البديل حكومة عالمية بقيادة واشنطن.. أم فوضى عارمة تحكمها شريعة الغاب؟

السفير الدكتور رجب السقيري

كتبت في هذه الصحيفة خلال السنوات الثلاث الماضية عدة مقالات تناولت فيها النظام العالمي الحالي أحادي القطبية بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية وتداعيات تفرد واشنطن بقيادة العالم وما نجم عن  ذلك من تطورات لا سيما بعد نشوب حربين كبيرتين ، إحداهما بين روسيا وأوكرانيا والأخرى حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة ، إضافة إلى حرب ثالثة بدأت للتو بين إيران وإسرائيل.
كان من المتوقع طبعاً أن تسفر هذه التداعيات عن تغييرات هيكلية على النظام الدولي وتفرز حالة من الاستقطاب الحاد مع إمكانية عودة النظام إلى ثنائي القطبية مثل سلفه الذي ساد العالم منذ الحرب العالمية الثانية وحتى تفكك الاتحاد السوفيتي في مستهل تسعينات القرن الماضي ، أو تحول النظام إلى متعدد الأقطاب كالأنظمة التي سادت العالم بقيادة بريطانيا وفرنسا ودول أوروبية أخرى في القرن التاسع عشر والقرون السالفة .

آن للعالم أن يفهم ويقرّ بالواقع الأليم الذي بشّرَ به ، ولو بمسحة من التفاؤل ، قبل أكثر من ثلاثة عقود ، المفكر الأمريكي ، الأستاذ في جامعة هارڤارد العريقة ، “فرانسيس  فوكوياما ” في مقاله الذي طوره لاحقاً ونشره في كتاب صدر عام 1992 بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وكان بعنوان : “نهاية التاريخ والرجل الأخير “
“ The End of History and the Last Man “
ما قصده فوكوياما بنهاية التاريخ هو انتهاء الصراع بين الأيديولوجيات واستقرار الأمور للديمقراطية الليبرالية كنظام حكم لكل دول العالم بعد أن هُزمت الإشتراكية هزيمةً نكراء . لكن النظام الديمقراطي الليبرالي العالمي الذي نشأ استناداً إلى المباديء والأسس التي اتفقت عليها الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية والتي قامت استناداً إليها منظمة الأمم المتحدة ، واحتفظت الدول الخمس المنتصرة في الحرب لنفسها بغنيمة الحرب الأهم وهي مقعد دائم لكلٍ منها في مجلس الأمن الدولي (الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا والصين والاتحاد السوفيتي)  الأمر الذي يعني أن الدول الخمس قد تولت منذ عام ١٩٤٥ المهمة الأخطر والأكثر أهمية وهي حفظ السلام والأمن الدوليين على أمل أن يحول ذلك دون وقوع حرب عالمية ثالثة .

طبعاً لا بد من التنويه هنا أن منظومة القوانين الدولية والمنظمات الدولية التابعة للأمم المتحدة ، إضافة إلى العديد من المنظمات الدولية خارج إطار الأمم المتحدة قد مثلت وما زالت تمثل النظام الدولي الذي توافقت عليه معظم دول العالم وعلى رأسها الدول التي تسير في فلك الغرب  والتي اتخذت من الديمقراطية الليبرالية والفكر الرأسمالي أساساً لأنظمة الحكم فيها .

استمرّ النظام الدولي ثنائي القطبية طوال الحرب الباردة بين العملاقين (١٩٤٥- ١٩٩١) أي حوالي خمسة عقود ، إلى أن تفكك الاتحاد السوفيتي وتم على أثر ذلك حل حزب وارسو واستقرت الأمور للولايات المتحدة دون منافسة ودون حربٍ باردة ودون استقطاب . بل إن دول المعسكر الشرقي التي كانت منضوية تحت حلف وارسو قد أخذت تسعى للانضمام إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو) والاتحاد الأوروبي وعملت على تحقيق إصلاحات في أنظمة الحكم واتخذت من الديمقراطية الليبرالية أيديولوجيةً لها ، فما الذي حدث بعد ذلك ؟

بعد انهيار سور برلين عام ١٩٨٩ ثم اكتمال تفكك الاتحاد السوفيتي عام ١٩٩١ وجدت أمريكا نفسها وحيدةً على قمة هرم النظام الدولي
ولم يعد لها منافس أو عدو تحسب له حساباً ، ولعل أحد أهم الأسئلة التي واجهتها كان يتعلق بحلف شمال الأطلسي (الناتو) . ماذا تفعل بذلك الحلف ؟ هل تبقيه قائماً بعد أن انهار حلف وارسو المعادي له ولم يعد في العالم أي دولة أو حلف أو مجموعة من الدول تشكل خطراً على الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين ؟ وماذا عن القواعد العسكرية والأساطيل الأمريكية المنتشرة في العديد من دول العالم وبحاره ومحيطاته ؟ وماذا عن مشاريع التسلح في الفضاء ؟ وماذا عن ترسانات الأسلحة النووية وأسلحة الدمار الشامل الأخرى التي تكدست عبر العقود لدى أمريكا وحلفائها الغربيين ؟ كل هذه الأسئلة جعلت أمريكا تبحث عن عدو جديد لاسيما وأن روسيا رغم ما ورثته عن الاتحاد السوفيتي من قوة نووية جبارة إلا أنها لم تعد مؤهلة لمنافسة أمريكا على زعامة النظام الدولي ، بل لم تعد مؤهلة أن تكون العدو الذي يبرر وجود مئات القواعد العسكرية الأمريكية المنتشرة في أنحاء متفرقة من العالم . أما الصين فلم تكن قبل ثلاثة عقود قد تأهلت اقتصادياً أو عسكرياً لمنافسة أمريكا على قيادة العالم . ورغم أن أمريكا تعتبر الصين الآن أكبر منافس لها على زعامة النظام الدولي وتخشى من توسع طموحات بكين بالهيمنة على جنوب شرق آسيا ، إلا أن الصين ما زالت ترى في نفسها دولةً نامية تحتاج إلى المزيد من القوة الإقتصادية والعسكرية كي تحمي مصالحها ، وما زال هدفها الأسمى على رأس أولوياتها منع استقلال تايوان وإعادة ضمها إلى الحضن الصيني .

ما لبثت السياسة الخارجية الأمريكية أن وجدت ضالتها التي تبحث عنها في ما سمي بالإرهاب والذي تم إلصاقه زوراً وبهتاناً بالإسلام وذلك بعد الإرهاصات التي أحدثها مفكر أمريكي آخر هو “صامويل هنتنجتون” الذي نشر عام ١٩٩٣مقالاً في مجلة فورين أفيرز ثم طوره عام ١٩٩٦ إلى كتاب أسماه  “صراع الحضارات وإعادة تشكيل النظام العالمي ” The Clash of Civilizations and the Remaking of the World Order الذي نقل الصراع الأيديولوجي حول أنظمة الحكم إلى صراع الحضارات باعتبارها المحرك الرئيس للنزاعات بين البشر. ورغم أن هنتنغتون قد تناول في كتابه تسعاً من الحضارات العالمية ضمت الحضارات الغربية واللاتينية واليابانية والصينية والهندية والأرثودكسية والأفريقية والبوذية والإسلامية ، إلا أن الغرب بزعامة أمريكا قد اختار بقدرة قادر الحضارة الإسلامية كي يتصارع معها ويلصق بها تهمة الإرهاب.

هذا الوضع المميز وغير المسبوق الذي وصلت إليه ومارسته الولايات المتحدة خلال العقود الثلاثة الماضية منذ انهيار الاتحاد السوفيتي عام ١٩٩١ وحتى الآن ، قد أغرى واشنطن بالتفرد بالسلطة فأخذت تتصرف كحكومة العالم . ربما لا بأس في ذلك بالنسبة للعديد من دول العالم شريطة أن تكون أمريكا منصفة وغير منحازة في أداء دورها القيادي كحكومة للعالم تحافظ على السلام والأمن الدوليين بما لديها من قدرات اقتصادية وعسكرية وسياسية ودبلوماسية هائلة ، فهل تحكم الولايات المتحدة العالم بشيءٍ من العدالة والإنصاف واحترام استقلال وسيادة ووحدة أراضي كل دولة من دول العالم ؟ وهل تعمل على تحقيق مبدأ الأمن الجماعي collective security الذي ينص عليه ميثاق الأمم المتحدة والذي حل محل التحالفات العسكرية ؟

الجواب طبعاً على كل هذه الأسئلة “لا” كبيرة ، فواقع الحال خلال العقود الثلاثة الماضية أن الولايات المتحدة قد قادت النظام الدولي نحو الهاوية ، وما زال النظام ينحدر بسرعة وبقوة نحو حالة من الفوضى العارمة ونحو شريعة الغاب . ولعل أهم المؤشرات على سقوط النظام الدولي الحالي أحادي القطبية وفشله في تحقيق السلام والأمن الدوليين
هو حرب الإبادة والتجويع والتطهير العرقي الجارية في غزة ، إضافة إلى الحرب الجارية حالياً بين إيران وإسرائيل . في كلا الحربين تقوم الولايات المتحدة بتقديم دعمٍ غير محدود لأحد أطراف النزاع وهو حليفتها إسرائيل ، وتستعمل حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن لإفشال أية محاولة من المجتمع الدولي لوقف الحرب والعمل على حل النزاع بالوسائل السلمية .

في حالة غزة مارست واشنطن ، الزعيم الأوحد للنظام العالمي ، ضغوطاً على محكمة العدل الدولية كي لا تدين إسرائيل وفرضت عقوبات على قضاة محكمة الجنايات الدولية بعد إصدار المحكمة مذكرة اعتقال لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه السابق يواف غالانت . كذلك فقد انسحبت الولايات المتحدة من مجلس حقوق الإنسان وأوقفت الدعم المالي عن وكالة الأونروا ، إضافة طبعاً إلى انسحابها من اتفاقية المناخ وفرضها رسوماً مرتفعة جداً على وارداتها من الدول الأخرى في تحدٍ غير مسبوق للمباديء والأسس التي أرستها منظمة التجارة العالمية WTO ، بل إن واشنطن تهدد بوقف الدعم المالي لمنظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) وربما بالانسحاب منها إذا لم يقم حلفاؤها في الحلف بزيادة مساهماتهم المالية في ميزانية الحلف وتخفيف العبء الواقع على أمريكا . هذا بالإضافة إلى الطموحات غير المسبوقة التي أعلنها رئيس الولايات المتحدة دونالد ترامب في بداية ولايته الثانية بضم كندا والاستيلاء على جزيرة غرينلاند الدنماركية والسيطرة على قناة بنما والتوقف عن دفع رسوم مرور السفن الأمريكية في قناتي السويس وبنما وبناء ريفيرا على أراضي قطاع غزة بعد تهجير سكانها الفلسطينيين .

الأمثلة كثيرة لا تعد ولا تحصى على قيادة الولايات المتحدة للنظام الدولي بمنظور مصلحتها ومصالح حلفائها لا بمنظور العدالة والإنصاف ومباديء استقلال الدول وحق الشعوب بتقرير مصيرها وحقوق الإنسان وحق الدفاع عن النفس والأمن الجماعي ، حتى أن واشنطن تناقض الآن في سياساتها الخارجية إزاء النظام العالمي المباديء الأربعة عشر للرئيس الأمريكي “وودرو ويلسون” التي أطلقها أثناء الحرب العالمية الأولى .

أخيراً ، لا بد من التنويه بأن السياسات المشار إليها في هذا المقال أو “سياسات البلطجة” كما يحلو للبعض تسميتها ، والتي اتّبعتها الولايات المتحدة وأدت إلى تهميش النظام الدولي لم تبدأ كما يظن كثيرون في عهد الرئيس الحالي دونالد ترامب ولن تنتهي بانتهاء ولايته ، وإنما شرعت واشنطن بانتهاجها منذ تربعها وحيدةً على عرش النظام العالمي قبل ثلاثة عقود ، وقد كانت واشنطن في عهود الرؤساء السابقين ، جمهوريين وديمقراطيين ، تمارس تلك السياسات بشكلٍ غير معلن مغلف بالدبلوماسية ومدعوم بالقوة الناعمة ، لكنها بدت واضحة جلية في عهد الرئيس ترامب لأنه واضح وصريح وقد أعلن منذ البداية شعاره الشهير “أمريكا أولاً” ، إضافة إلى الرديف الأهم لهذا الشعار وهو : “لنجعل أمريكا عظيمة مرةً أخرى” ، ولا يهم إذا كانت تلك العظمة على حساب دول العالم الأخرى لاسيما الصغيرة منها والفقيرة أو على حساب السلام والأمن الدوليين وعلى حساب الأمم المتحدة ومنظماتها والقوانين والشرائع الدولية التي تشكل النظام العالمي .
والله من وراء القصد .

سفير سابق لدى الأمم المتحدة / جنيف
وباحث في العلاقات الدولية والدراسات الدبلوماسية

ندرك جيدا أنه لا يستطيع الجميع دفع ثمن تصفح الصحف في الوقت الحالي، ولهذا قررنا إبقاء صحيفتنا الإلكترونية “راي اليوم” مفتوحة للجميع؛ وللاستمرار في القراءة مجانا نتمنى عليكم دعمنا ماليا للاستمرار والمحافظة على استقلاليتنا، وشكرا للجميع
للدعم: