زياد جيوسي: في فضاءات رواية خُلق انسانا

زياد جيوسي: في فضاءات رواية خُلق انسانا

زياد جيوسي: في فضاءات رواية خُلق انسانا

 
 
زياد جيوسي

   رواية “خُلق إنسانًا”، والمعنونة فرعيًا بـ “شيزوفرينيا”، هي عمل سردي للكاتبة عنان محروس، سورية الأصل والمقيمة في الأردن، ويشير العنوان الفرعي إلى مرض الفصام (الشيزوفرينيا)، الذي يشكّل المحور النفسي والفكري للرواية، ويعكس معاناة الشخصية الرئيس في الرواية وانقسامه الذاتي في مواجهة واقع اجتماعي قاس، وقد سبق للكاتبة أن أصدرت أعمالًا أدبية متعددة، وهذه الرواية تحديدًا صدرت بطبعتها الثانية والمنقحة عام 2021 عن دار الغاية للنشر والتوزيع في عمّان، وتضمّ 284 صفحة. وقد صمّم غلاف الرواية الفنان إبراهيم العطيات، وجاء معبّرًا عن الحالة النفسية التي تعالجها الرواية، بينما تضمّن الغلاف الخلفي صورة الكاتبة ومجموعة عبارات تلخص جوهر العمل.
     تقسم الكاتبة الرواية إلى فصلين: الأول يحمل عنوان “آدم” ويشكل ثلثي العمل، بينما الفصل الثاني بعنوان “مريم”. يتفرّع كل فصل إلى أجزاء معنونة، تتماشى مع مراحل تطوّر الشخصيات والزمن الروائي. وقد أرفقت الكاتبة في نهاية العمل ملحقًا عن مرض الفصام، إسهامًا في التوعية بطبيعة المرض الذي تبني عليه الرواية محورها الأساس، وتبدأ الرواية بإهداء عاطفي لمن يخدمون الأطفال، وتليها بطاقة شكر مؤثرة لزوج الكاتبة، تقديرًا لصبره ودعمه.
   تدور أحداث الرواية في بيروت كمسرح رئيس، ثم في صيدا لفترة مؤقتة، وإسطنبول خلال شهر العسل بين آدم ومريم، ويمتد الزمن من حرب لبنان عام 1982، بما فيها من مآسي كحصار بيروت ومذابح صبرا وشاتيلا، وصولًا إلى تحرير الجنوب عبر المقاومة المسلحة.
   نقف أمام رواية بدأت بالألم لتنتهي به، عرفت القسوة واليتم والمعاناة والمرض والموت والحب والخيانة والندم، والعنوان يحمل دلالة عامة حول كل المهمشين في المجتمعات وليس بطل الرواية فقط، وتفتتح الكاتبة الرواية بجزء بعنوان “بداية النهاية”، وفيه يبلغ آدم سن الأربعين، وهو رقم ذو رمزية روحية ودينية، فتستحضره الكاتبة بتوظيف بلاغي مستمد من السيرة النبوية والكتب السماوية، فسيدنا محمد بعث رسولا في الأربعين من العمر، وسيدنا موسى واعده الله سبحانه أربعين يوما وسيدنا المسيح خرج الى القفر اربعين يوما وليلة، وبوذا تأمل تحت الزيزفون اربعين يوما، ومن العادات الاجتماعية الموروثة فالحزن اربعين يوما ويجري الاحتفال بالمولود بعد اربعين يوما، وهناك الكثير مما يتعلق بهذا الرقم لكن خارج اطار ما ذكرته الراوية في الرواية.كإشارة إلى التحول والوعي. ومن هذا المنطلق، ينفتح السرد على تقنية استعادة الذاكرة.
في هذا السياق، يسترجع آدم طفولته القاسية: أب عنيف وقاس يحترف ضرب الأطفال بقسوة، وأم قاسية لا تعرف الحنان، وأم لا تعرف الحنان وتعاقب برفقة زوجها الأطفال بلا رحمة بالضرب والحرق بأعواد الثقاب لأقل مسألة، ولا يهمها الا المال ولو على حساب كرامة ابنتها وأبنائها، إضافة للحرمان من الطعام رغم قلته، رغم أن آدم كان في حدود السادسة من العمر،تمتهن إذلال أبنائها واستغلالهم،حتى دفعته إلى التسوّل، وسكنت به وأسرتها في قبو غير صالح للسكن الآدمي. وتبلغ القسوة ذروتها حين ترغم الأم ابنتها سلمى على ممارسة الدعارة من أجل المال، ما يدفع الطفل آدم إلى اختراع صورة أم بديلة في خياله، يلجأ إليها هربًا من الألم فيقول: “فقط في الأحلام منجى من الشر والمعاناة”.
   تتصاعد المعاناة حين يقع آدم ضحية اغتصاب من رجل غني منحرف (الباشا)، الذي يغريه بالمال وتوفير فرصة عمل له، رغم نصيحة صديق له أن لا يذهب للباشا، فيقع فريسة لوحش بشري اغتصبه بعد أن خدره، وهذه الشخصية للرجل الغني المنحرف أخلاقيا، والذي يستدرج القُصر من الفقراء والمتسولين تكررت في العديد من الكتب والروايات من باب النقد الإجتماعي، سواء في الادب العربي أو العالمي، ومع الأزمة النفسية التي أصبح بها آدم بعد اغتصابه، حاولت سلمى مراودته على نفسه فضربها، مما يفاقم حالته النفسية ويقوده إلى مزيد من الشك في نفسه وفي محيطه. ثم تأتي الصدمة الكبرى حين تبوح له سلمى بأنه ليس أخًا لها،بل لقيط اختطفته بهية وزوّرت أوراقه، لتحوله الى متسول يدر دخلا ماليا عليها، وأكد له ذلك الأب الذي أصبح مشلولا ولا أحد يعتني به الا آدم، عندها يقرّر الهرب من هذا المستنقع. لكن الهروب لا يقوده إلى الخلاص بل إلى الشارع، حيث يأكل من النفايات ويلبس منها، حتى يُنقذه الشيخ عماد فهو لم يتزوج بسبب المرض، ويتبنّاه ويوجهه نحو التعليم والدين، ويصبح بذلك حجر الزاوية في تحوّل  من ضحية إلى ناجٍ.
   يلتحق آدم بالجامعة بعد أن نال الثانوية، يدرس اللغة العربية، ويتفوق ليُلقب بـ”آدم العبقري”، ويقول عن نفسه: “خُلقت إنسانًا”، وهي العبارة التي تعطي الرواية عنوانها الرئيس. ثم يقع في حب مريم، ابنة صاحب عمله، ويتزوجها رغم اختلاف الدين والمعارضة المجتمعية. أن تتزوج مسيحية من مسلم.
   أدخلت الكاتبة نصوصًا شعرية على لسان مريم، الشاعرة، فجاء الشعر متماشيًا مع السرد دون افتعال. فمريم شاعرة والكاتبة ليست بعيدة عن أجواء الشعر، وقد تناولت الرواية قضايا إجتماعية عديدة: الفقر، العنف الأسري، التسول، القوادة، استغلال الأطفال، الاغتصاب، الحرمان، المرض النفسي، الظلم الطبقي، الفساد، التمييز الديني، وعقد المجتمع تجاه الزواج المختلط أو زواج المرأة من رجل أصغر منها.اشارت على لسان آدم ان البشر “يسكنون سطح الأرض ومعظمهم لا يليق بهم إلا جوفها”، وأشارت أيضا أنهم “بشر يتباهون بأنصاف أجسادهم السفلية”، وأشارت أن: “كثرة النوم تميت القلب، وتورث الغفلة والقسوة، وأن قل فإنها تدل على ذكاء صاحبه، وتحليله الدائم للأمور، وتساؤله حول الكون وتفكيره الابداعي في ملكوت الله”، وكذلك لأب وأم يمتهنون تعذيب الابناء لأقل غلطة ولا يعرفون الحنان، ويدخلون بعدها لغرفتهم يستمتعون بعلاقتهم الخاصة وأصواتهم تصل للأبناء فلا جدار يمنع الاصوات، ولا يراعون تأثير ذلك على الأطفال.
   وكذلك اشارت الرواية لإطلاق الألقاب وخاصة التركية مثل “بيك وباشا” وغيرها “على سبيل التملق أو المجاملة لفاحشي الثراء، توقيرا وتعظيما، لما يملكون طبعا”، وكذلك النظرة السلبية في بعض القرى للممرضات بسبب عملهن بين الرجال والمناوبات الليلية، والاهمال للمرضى في المشافي الحكومية سواء من حيث قذارة الأمكنة واهمال الممرضات للمرضى، وكذلك لعالم قعر المدينة حيث العصابات بأشكالها المختلفة وخفافيش العتمة من البشر والحياة البائسة التي يحيونها، والبذخ لدى الأثرياء ورمي الأطعمة الفائضة في حاويات القمامة بدلا من إطعامها للمحتاجين، وكذلك لتخلي الأخ المليونير في المهجر عن اقراض أخيه الشيخ بعض المال.
   والتساؤل من آدم إن كان يجوز لمسلم أن يعمل عند غير مسلم، كما أشارت إلى نهاية بهية مقتولة، وإلى الحال الذي آلت اليه الأسرة بما فيها سلمى التي احترفت العهر، في إشارة واضحة أن طرق السوء مآلها الهلاك، مقارنة بوضع آدم الذي أكمل الدراسة الجامعية، وكذلك طرحت الرواية قضية الزواج بين مسلم ومسيحية ورفض المجتمع لها، وكذلك مسألة أن تكون المرأة أكبر بالعمر من زوجها وهو غير مقبول اجتماعيا.
   ومن القضايا الاجتماعية التي أشارت لها الرواية أن مدة العزاء عند المسلمين ثلاثة أيام، وهو عُرف اجتماعي لا علاقة له بالدين، وكذلك غيرة النساء من بعضهن وممارسة الغيبة والنميمة والإشاعات، كذلك المشكلات الزوجية لأسباب تافهة حتى تبعد الزوجين عن بعضهما روحيا ومن ثم جسديا، وكذلك كيف أن هجران الزوج لزوجته والجفاء العاطفي يمكن أن يدفعها للخيانة الزوجية في لحظة ضعف واحتياج.
    كما تتضمن الرواية إسقاطات سياسية، مثل رفض الاحتلال الإسرائيلي للبنان، والدعوة إلى المقاومة بدلًا من التسويات السياسية، إضافة إلى إدانة الطائفية ومسببات الحرب الأهلية اللبنانية.وأيضا أشارت الروائية لطرد الاحتلال الصهيوني من جنوب لبنان، بقوة المقاومة بعيد عن الطائفية التي مزقت لبنان من بدء الحرب الأهلية عام 1974، وأن المقاومة هي الوسيلة للتعامل مع الاحتلال الذي لا يمكن أن يستجيب لأية تسويات سياسية، وأن الحرب الأهلية كان وراءها جهة أو جهات تهدف لتدمير لبنان من خلال صراع طائفي.
   الفكرة التي قامت عليها الرواية قوية، إذ تربط المرض النفسي بالعوامل المجتمعية المؤدية إليه، ففكرة علمية مثل هذه كانت بحاجة لأسلوب سردي ولغوي أقوى، رغم أن الكاتبة تنقلت بين الأزمنة من خلال أسلوب التذكر.
   كذلك فإن شخصية الشيخ عماد، ورغم رمزيتها، بدت مبالَغًا في مثاليتها. فالرواية لم تُقنع القارئ بسبب واحد منطقي يدفعه لاحتضان آدم دون غيره، رغم أن الشوارع تعج بأمثاله. كما أنّ وفاة الشيخ وأبي مريم في حادث واحد بدت مسرعة وغير مُقنعة (دراميًا)، بعد أن خرجا معا بدون سائق، وأبو مريم يعاني من مشكلة في النظر ومن عامين لم يسق سيارة، فهل رغبته بأن يختلي بالشيخ عماد للتحدث عما جرى من عناق بين آدم ومريم في حفل اشهار ديوانها، واعلان قصة حبهما التي كانت مخفية عن الآخرين مبرر لهذه الرحلة التي أودت بهما بالحادث؟ وكان يمكنهما أن يجلسا في أي مكان أو في المكتب، لا أن يذهبا الى مسافة بعيدة حتى يعودا ليلا. وكان يمكن للكاتبة أن تعالج هذه الأحداث بمزيد من التمهيد أو التبرير النفسي أو السياقي.
   ومن المآخذ الأخرى، غياب التفاصيل الدينية الدقيقة عند الحديث عن فكرة زواج مريم بابن عمها،حيث أن غالبية الطوائف المسيحية لا تبيح هذا النوع من الزواج إلا بموافقة كنسية خاصة.
      لكنها عانت سرديًا من بعض الضعف. فالرواية اعتمدت بشكل مفرط على عنصر الصدفة، ما أضعف حبكتها في بعض المواضع، بهية التقطت آدم صدفة وزورت شهادة ميلاد له، الباشا القذر التقى آدم صدفة، الشيخ عماد التقط آدم من جوار الحاوية صدفة، وفاة الشيخ عماد وأبو مريم بحادث سيارة صدفة، مريم تجد دفتر مذكرات آدم صدفة، وغيرها العديد من الصُدف، وهذا يضعف المواقف والأحداث في الرواية، فتلجأ الكاتبة لها بدل من أن توصل القارئ بسرد روائي للأحداث بعيد عن هذه الصدف المفاجئة.
   أيضًا، عانى السرد أحيانًا من مباشرة زائدة، وضعف في بعض التركيبات اللغوية التي كان يمكن صقلها، خاصة في تناول المواضيع النفسية الدقيقة مثل الفصام، والتي كان من الممكن تعميقها بأسلوب أكثر قوة أو رمزية.
   تعدد الأصوات الروائية قدّمت الرواية سردًا متعدد الأصوات: يروي آدم فصله الأول من وجهة نظره، والمصاب بالفصام لا يدرك عادة مرضه، إضافة لإصابته بمتلازمة الساقين، ما أضفى صدقية على تحيّز سرده وتشوشه. أما مريم، فترتكز على وعي أنضج، وتجربة أكثر اتزانًا، تكشف من خلالها مآسي آدم التي لم يعترف بها، وتفصح عن معاناتها مع زوج يرفض منحها فرصة الأمومة. لحظة ضعف واحدة تقودها إلى الخيانة، إلى الحمل، ثم إلى طلب الانفصال شرعا، لتكمل مأساتها الخاصة التي توازي مأساة آدم.
   رسالة الرواية ووقعها الإنساني رغم كل الملاحظات النقدية السابقة، فإن “خُلق إنسانًا” هي رواية تحمل رسالة إنسانية نبيلة، تسلط الضوء على آلام المهمشين، بأنهم بشر وخلقوا كذلك، وتدعو إلى فهم أعمق للاضطرابات النفسية. بلغة سهلة وسرد غير معقد، تطرح الرواية أسئلة عن الإنسان، عن الخطيئة والمغفرة، عن الفقر والكرامة، عن الحب والخيانة، وعن المجتمع الذي يصنع ضحاياه ثم يدينهم.
   آثرت في مقالي الابتعاد عن الحديث عن نهاية الرواية، لكي لا أفسد على القارئ المتعة بالقراءة، فالنهاية مفاجئة وهي البداية لجزء آخر من الرواية، وقد لا تبلغ الرواية الكمال الفني أو السردي، ولكنها عمل جريء ومؤثر، يلامس الوجدان، ويمنح الصوت لمن لا صوت لهم.
   ويكفي أن تنهي الكاتبة روايتها بجملة على لسان مريم: “كلّنا مصابون بالفصام يا عزيزي”، لتُشير ببراعة إلى التناقضات التي يعيشها الإنسان في مجتمعات مأزومة… مهما بدت ملامحه متزنة.

“عمَّان 8/6/2025”

ندرك جيدا أنه لا يستطيع الجميع دفع ثمن تصفح الصحف في الوقت الحالي، ولهذا قررنا إبقاء صحيفتنا الإلكترونية “راي اليوم” مفتوحة للجميع؛ وللاستمرار في القراءة مجانا نتمنى عليكم دعمنا ماليا للاستمرار والمحافظة على استقلاليتنا، وشكرا للجميع
للدعم: