
نزار القريشي: كبرى بالشرق الأوسط عبر هندسة “الإدماج”
نزار القريشي
بات من الواضح تزايد الرغبة الملحة لكل أطراف مجتمع الاستخبارات العالمي، في لملمة الفوضى العارمة التي يشهدها العالم، بدء وبداية هذا القرن، بالحرب التي شملت كلا من أفغانستان والعراق، بعد تنامي نظام القطب الواحد، الذي نتج على إثر امتلاك الولايات المتحدة الأمريكية لفائض قوة كبير جدا، وذلك بعد تفكك وانهيار الاتحاد السوفياتي، والذي كان من مؤدياته المباشرة سقوط جدار برلين. وبذلك، تم تجاوز الخرائط التي جاءت مع مقررات الحرب العالمية الثانية، غير أن بعض التجاوزات لمجالات النفوذ، وتداخل المسؤوليات في بعضها البعض، وفي الأدوار التي تم توزيعها بعد سنة 1945، هو ما زاد من رغبة “الناتو” في التوسع أكثر على حدود روسيا، وذلك بعد وصول فلاديمير بوتين لرئاسة روسيا، وبعد الخطوة التي أقدم عليها الكريملين باتجاه القرم، فهذا هو ما استدعى الحرب الأوكرانية، ومتابعتها بحرب غزة، مع استمرار الغموض الذي يلف وضع بحر الصين الجنوبي وتايوان، كما أن هذه التطورات ساهمت فيها، وبشكل أقل، الأزمات المالية، ومستويات التضخم العالمي، وهو ما دفع بالاقتصاديين الدوليين الكبار إلى استدعاء هذه الحروب والنزاعات الدولية، وفق ما أسست له نظريات العالم الاقتصادي جون مينارد كينز، والتي ارتبطت بأولويات المصاريف الدولية ومصالحها، وهي نظريات نجحت في إخراج العالم من أزماته المالية كلما تجددت هذه الأزمات.
إلى ذلك، فدراسة ومواكبة الفوضى السائدة، يشتغل مجتمع الاستخبارات على إيجاد حلول لها، عبر مقاربات صادرة من مجموعة بلدربيرغ واللجنة الثلاثية، على اعتبار هذه السقوف التي وصلت إليها الأزمات الدولية المذكورة.
وفي هذا السياق، تسرب من مديرية الاستخبارات الخارجية الفرنسية، من داخل مكتب نيكولا ليرنر، خبر المفاوضات السرية التي تجري بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية، عبر خط الاتصال المفتوح بينهما، وتتضمن النقاشات، التقريب بين وجهات النظر حول الوضع الدولي بالشرق الأوسط، ومدى إمكانية انخراط إيران في إحداث تغيير يشمل مراجعة رؤيتها وعلاقاتها بالإقليم على المدى المتوسط والبعيد، مع طرح محفزات جد مغرية لطهران، قد تساهم في ازدهارها، وتسمح لها بالرفع من سقف طموحها في التنمية والتقدم، مع الالتزام بإلغاء العقوبات الصادرة في حقها نهائيا وبدون عودة، وتتلخص الخطط المطروحة عليها، التزامها بعدم وضع اليورانيوم المخصب لديها بنسبة 90 % على تصاميم لقنابل نووية، والتخلي التدريجي عن دعم أدواتها بالمنطقة، للتسريع باندماج هذه الأدوات في محيطها المحلي، وهي رؤية لهندسة “الإدماج” ستكون عنوانا للمرحلة القادمة بالشرق الأوسط.
لذلك، فإن التفاهمات حول معالجة الأزمة الدولية بأوكرانيا وغزة، والأزمات ذات الصلة بهما، تؤهل التسريع بتنزيل خرائط ما بعد الحربين، ستسمح بتقسيم مجالات النفوذ من شرق آسيا وإلى جنوبها ما بين الصين والهند وروسيا، مع الاحتفاظ بوضع خاص لمنطقة البحر الهادئ باعتبار الصراع المفتوح بين الكوريتين في ظل رفض بيونغ يانغ لأي حوار متقدم مع سيول، وارتباط مصالح طوكيو العسكرية مع البنتاغون، في امتداد ذلك نحو بريطانيا بالقارة الأسترالية.
وفي الشرق الأوسط، فإن مرحلة ما بعد الحرب بغزة ستدفع بما تبقى من الفصائل و”حماس” للاندماج في إطار وطني مع باقي المكونات الفلسطينية، مما سينهي الانقسام بينهما، بعد إتمام عملية الاندماج.
ومن جانب آخر، فإن الوضع بالنسبة لـ”حزب الله” لن يخرج عن إطار ما هندسته عملية “الإدماج”، والتي تسربت محاورها على لسان مستشارة لرئيس عربي ، وهو ما كان سببا في اغتيالها، إذ تلقى عملية “الإدماج” هذه دعما من دول الإقليم، وبعد طرح النقاشات والتفاهمات الجارية بين الجيش اللبناني وواشنطن والرياض، عبر وساطة الإليزيه، سيخلص الجيش اللبناني بعد تحكيمه للعقل، وكضرورة لإنقاذ البلد من الانهيار التام، والنهوض باقتصاده وتنميته، إلى أنه ما من بد لتجاوز أزمات لبنان إلا باندماج “حزب الله” وسلاحه في الجيش اللبناني، وهو ما تدعو إليه الأصوات المعارضة للحزب من داخل لبنان وخارجه، وذلك على اعتبار أهمية الإجماع الوطني الذي يحظى به الجيش لدى جميع الطوائف اللبنانية، وهو ما سيلغي الاحتقان الداخلي، ويساهم في جلب الاستثمارات العربية والغربية، والدعم المالي الذي سيتدفق على بيروت من أبوظبي والرياض وباريس ولندن، ومن جهة أخرى، فإن هندسة هذا “الإدماج” هو ما قد تقبل به جماعة “أنصار الله” على المدى المتوسط أو البعيد، لما فيه من محفزات تضمن لها العودة عن قرار تقسيم اليمن واستقلال جنوبه، وهو ما سيضمن بقاء اليمن موحدا إن انخرط “الحوثي” في مسار عملية “الاندماج” مع كل مكونات الدولة اليمنية، إذ ستوفر الرياض استثمارات هائلة للنهوض باليمن في إطار النهضة التي ستشمل الإقليم، وهو ما يؤكد معه أن هندسة “الإدماج” ستكون عنوانا للمرحلة على المدى القريب و المتوسط ، وهو ما سينتج عنه ترسيم خرائط جديدة للمدى القريب و المتوسط والبعيد، ستكون قابلة للصمود إلى غاية سنة 2090، إذ بعد هذا التاريخ، وبعد انتفاء الثروات بالشرق الأوسط وشمال إفريقيا، سيكون الوضع بالمنطقتين مؤهلا لخرائط جديدة، وهو ما كشفت عنه خرائط صادرة عن “تجمع البنائين الأحرار” بفرنسا، إذ أخذت هذه الخرائط بعين الاعتبار تخفيف الضغط على الحكومات الوطنية المركزية، في ظل قلة الثروات آنذاك، وذلك عن طريق اللاتمركز الإداري والجغرافي، الذي تضمنته هذه الخرائط، نحو تجاوزها وضعية التمركز إلى وضعية اللاتمركز، وهو ما يتم حاليا الاشتغال عليه، مع ما يصاحبه من أوراش للجهوية المتقدمة، كما هو الحال بعدة دول، من أهمها النموذج البريطاني والإسباني.
كاتب مغربي
ندرك جيدا أنه لا يستطيع الجميع دفع ثمن تصفح الصحف في الوقت الحالي، ولهذا قررنا إبقاء صحيفتنا الإلكترونية “راي اليوم” مفتوحة للجميع؛ وللاستمرار في القراءة مجانا نتمنى عليكم دعمنا ماليا للاستمرار والمحافظة على استقلاليتنا، وشكرا للجميع
للدعم: