عفيف قاووق: قراءة في رواية الخروبة للأديب رشيد النجّاب

عفيف قاووق: قراءة في رواية الخروبة للأديب رشيد النجّاب

عفيف قاووق: قراءة في رواية الخروبة للأديب رشيد النجّاب

 
 
عفيف قاووق
رواية الخروبة يمكن إدراجها ضمن أدب السيرة الغيرية، حيث أن الكاتب الحفيد يكتب لنا ما يشبه السيرة أو جزء منها لسيرة الجد. ولأنها سيرة غيرية فمن الطبيعي أن يطلق الكاتب العنان لمخيلته لتوضيب ما سمعه سواء بالتواتر او من أفراد العائلة الذين عايشوا تلك المرحلة الزمنية دون ان يحيد عن الخط الدرامي للحكاية وأصلها.
حدس الأم  كان لافتا ذلك الصباح الذي لم يكن مثل كل صباح بالنسبة لمِصلحة أم رشيد، هاجس غريب عبث بخدر الجسم وأبعد عن العينين سكينتهما، وبات الفراش غريبا يتنكر لمهمته كمكان تستمد منه بعض الطاقة للغد.
أحداث الرواية جرت زمن الإحتلال العثماني للوطن العربي، والحدث الأساسي التي انطلقت منه هو مجيء الخيالة في الجيش العثماني لإصطحاب رشيد للتجنيد الإجباري، ولم يشفع له كونه الإبن الوحيد لأبويه فأوامر السلطان واضحة تجنيد يعني تجنيد.ولقد ترك هذا الأمر انعكاساته على العائلة. فوالده عبد الرحمن بحدث نفسه ويتساءل:”هل حقا  سيعود ومتى؟ لقد كان وجوده عونا حقيقيا لي فهل أراه مجددا؟ هل سيكون على هذه الارض من يخلد إسم هذه العائلة بالولد وولد الولد؟ عندها تراقصت الشفتان واستجابت العينان بدمع حارق، وحرص الوالد ان تكون البنات خارج السقيفة خشية ان تراه فدمعة الأب شديدة الألم في نفس البنت، وهي أشد ألما في نفس الاب إن هي لاحظتها. ولم تكن الأم بأحسن حال من الأب فقد تاهت في دوامة من الاسئلة: كيف سيكون أمر طعامه وشرابه؟ من يعتني به؟ أين سينام وهل سيأخذ كفايته من النوم؟. وفي موضع آخر يصف لنا الكاتب حال النسوة الأمهات اللواتي لذنّ بصخرة تطل على الطريق ليودعنّ الركب والأبناء وفي كل عين دمعة،وفي كل قلب حرقة، وفي كل نفس ضيق والحيرة تتملك الوجوه.
 قدمت لنا الرواية رشيد ذلك الفتى الفلسطيني الحريص على كرامة وعنفوان أبويه فهو يأبى لهما الظهور بمظهر المستعطف أو المتذلل أمام العسكر العثماني بل تقدم وبكل شجاعة قائلا:”ولا يهمك يابا، يبدو أن لا طريقة للفكاك، هون عليك واعتنِ بأمي وأخواتي وسأعود إليكم”. وفي موضع آخر عندما انتدب رشيد مع مجموعته للقبض على من يصفه العثماني بأحد الأشرار الذين يتاجرون بالمحرمات ويضايقون الأهالي، وبعد ان انطلق رشيد بمجموعته  قال لهم “اسمعوا يا جماعة نحن لا نعرف عن هذا الرجل شيئا قد يكون شرير فعلا  والأرجح ان يكون معاديا للدولة التركية لأسباب أخرى فعمدت لإلصاق هذه التهمة به لتأليب الناس عليه، ويريدون منا أن نكون مخلب قط ينقضون به على أعدائهم وأنا لا أود لكم ولا لنفسي القيام بهذا الدور”. هنا تقدم لنا الرواية صورة بأن الفلسطيني بطبعه يميل لنصرة ابن جلدته ووطنه ولا يسلمه للغريب المحتل.وفي موضع آخر تبرز الرواية الصفات القيادية التي تمتع بها رشيد والتي جعلته مسؤولا عن تدريب رفاقه،  كما وانه استطاع ان ينسج معهم علاقات صداقة وأصبحوا يطمئنون لوجوده بينهم.
أجاد الكاتب في توصيف الوضع المعيشي للأسرة في الريف الفلسطيني، حيث كانت أسرة رشيد مؤلفة إلى جانب أبويه منه ومن اختين، يعيشون في بيت هو السقيفة ولا يملكون من سبل العيش سوى زوجين من الماعز وبضع دجاجات وديك وحمار للركوب او لنقل المحاصيل في المواسم كمواسم الزيتون وغيره من المحاصيل. كما اتت الرواية على معاناة الناس من شح المحاصيل وضيق ذات اليد، ومع ذلك كانت السلطة العثمانية ترهقهم بتقدير الضرائب على نحو لا يتناسب وقدراتهم المالية. وفي إشارة قد تكون لا تزال قائمة في بعض البلدان إلى يومنا هذا فبعض الدول لا تتذكّر رعاياها عندما يستحق تعليمهم،  ولا تؤمن لهم رعاية صحية وإستشفائية، ولا ظروفاً معيشية لائقة. ولكنها تتذكرهم عند جني الضرائب أو الحاجة إلى شبابهم لتزج بهم في أتون حروبها.
كما أشارت الرواية إلى حالة التكاتف والتعاضد بين الأهالي حيث كانوا يتداعوا إلى طعام مشترك يأتيهم من البيوت ومعظمه يغلب عليه العدس والبقوليات. وايضا عندما اراد مختار إحدى القرى إطعام الخيالة والذين معهم  ووفقا للدور المتبع نادى المختار على ثلاثة من الرجال قائلا:” الله يخلف عليكم يا عميّ ولا تنسوا تعلقوا للخيل”. وأيضا عندما أقدم أبو سليم صديق عبد الرحمن بتزويده بكميات من السكر والشاي لندرة هذه المواد في الاسواق. كما تنقل لنا الرواية طبيعة الأحاديث التي كان الجمهور يتناقلها فلا تنقل صافية كما هي بل يطالها التبهير والمبالغة في أحيان كثيرة.
المكان كان حاضرا في هذه الرواية فقد أتى الكاتب في سياق سرده على العديد من الأمكنة والمعالم التي عبرها رشيد من حين التحاقه بحملة التجنيد ولغاية وصوله إلى بعلبك في البقاع اللبناني وما تلا ذلك. والبداية من قريته جيبيا لتكر سبحة الأماكن التي مرت بها قافلة التجنيد ومنها، بير زيت، كوبر، برهام، أم صفاة، خربة “صِيّا”، كفر أشوع ، عجول، القدس، بيت صفافا، دير الشيخ، طولكرم، جنين،العفولة، حيفا، طبريا، بيسان، رام الله، سمخ التي اصبحت لاحقا مستوطنة تسيماح، دمشق وأسواقها المتنوعة وأيضا مدينة بعلبك اللبنانية وغيرها من الأماكن. كما ذكر لنا أسماء بعض المقامات في القرى والبلدات مثل مقام بايزيد،أحراش النبي صالح، مقام الشيخ محسن ومقام الأربعين. وفي إشارة موجزة عن بعض المدن توضح الرواية اصل تسمية طولكرم بأنها طور كرم أي جبل العنب، كما أن بيسان كانت عاصمة الفراعنة خلال حكمهم لفلسطين، وكذلك جنين تعتبر حارسة مرج بني عامر وهي غارقة في التاريخ إلى زمن الفراعنة.أما بعلبك فهي بعل أي الإله وبق بمعنى البقاع لتكون بعلبك موطن إله البقاع. ولم يفت الكاتب الإشارة إلى القائد الفلسطيني ظاهر عمر الزيداني الذي اقام أول كيان فلسطيني في القرن الثامن عشر فحكم عكا وأنشا مدينة حيفا وفي هذا إشارة إلى عراقة الوجود الفلسطيني في تلك المنطقة.
المكان المركزي الذي تذكره الرواية والذي استمد منه الكاتب عنوان روايته  هو موضع الخروبة المعروفة بخروبة النحلة والتي سميت بهذا لأن نحلة استقرت بين أغصانها وجعلت لها فيها مقراً. والتي أصبحت بمثابة الصومعة لأم رشيد التي سارت إليها لترقُبَ الركب الذي إبتعد مصطحبًا وحيدها معه وكأنهم شدذوا جزءاً من روحها. ولقد جعلت مِصلحة من الخروبة مقرّها ومقامها في ساعات العصر تترقب عودة ابنها وتعد نفسها لمراسم إستقباله. وأصبحت الخرّوبة مكانًا للجلسات واللقاءات للصديقات والقريبات والجارات وحتّى الذين علموا بوفاة عبد الرحمن، جاؤوا إلى القرية مُعزّين باتت الخرّوبة وجهتهم. وفي إشارة رمزية حول ما آل إليه مصير تلك الخروبة تقول الرواية انها اختفت ويرجح ان يكون الإحتلال قد اغتالها لاحقا لما تمثله في الذاكرة الشعبية لفلسطينيي تلك المنطقة وهذا ليس بغريب عنه فمن يغتال البشر لا يتواني عن اغتيال الشجر.
لا بد من الإشارة إلى ان الرواية تضمنت بعض الأمثال الشعبية التي لا تزال حيّة ليومنا هذا مثل:
– اللي بيوقع من السما بتتلقاه الأرض، مثل خبز الشعير مأكول مذموم، إن لم يتوفر الضاني عليك بالقطاني، بيت البنات خراب ومن سرى باع واشترى. وإلى جانب هذه الأمثال كانت اللهجة المحكية حاضرة أيضا  في الرواية مما أضفى عليها الكثير من المصداقية والواقعية.
ملاحظة أخيرة تورد الرواية بعض الإشارات المستقبلية بحيث تدفع القارىء للتساؤل هل الكاتب بصدد كتابة الجزء المتمم لها، ومن هذه الإشارات مثلا: لم يعلم عبد الرحمن في حينه أن حفيده وحامل اسمه وكنيته أبو رشيد سيناضل في سبيل إنشاء مؤسسة تعليمية في منطقة بيرزيت  تحمل اسم مدرسة الأمير حسن.   وأيضا عندما كان رشيد يتلقى الضربات بالسوط من العثماني يتساءل الراوي هل علم ولده سليمان بهذه التجربة وهو يكابد التعذيب في السجون الإسرائيلية؟.
انتهت الرواية بعودة رشيد غلى عائلته وبلدته واندحر الإحتلال العثماني على أمل ان تتحقق نبوءة  رشيد ” أما  ما بعد ذلك يا أمي فبداية عهد جديد” وكلنا أمل ان يكون ذلك العهد الجديد بزوال الإحتلال الحالي إسوة بما سبقه من إحتلالات..
 ختاما رواية واقعية أرّخت لحقبة تاريخية محددة وكتبت بلغة رشيقة بحيث تجذب القارىء وتأسره للمتابعة.

لبنان

ندرك جيدا أنه لا يستطيع الجميع دفع ثمن تصفح الصحف في الوقت الحالي، ولهذا قررنا إبقاء صحيفتنا الإلكترونية “راي اليوم” مفتوحة للجميع؛ وللاستمرار في القراءة مجانا نتمنى عليكم دعمنا ماليا للاستمرار والمحافظة على استقلاليتنا، وشكرا للجميع
للدعم: