نصر سيوب: الدلو والمطر.. سيمفونية العطاء قراءة في هايكو المبدع سامح درويش

نصر سيوب: الدلو والمطر.. سيمفونية العطاء قراءة في هايكو المبدع سامح درويش

نصر سيوب: الدلو والمطر.. سيمفونية العطاء قراءة في هايكو المبدع سامح درويش

 
 
الأستاذ نصر سيوب

“على حافة البئر
الدلو
يملؤه المطر”

ــ مقدمة :
  في هايكو مكثّف من ثلاث شذرات يُطل الشاعر سامح درويش على مغامرة شعرية فريدة، لا تُكتشف طبقاتها إلا بمساءلة الانزياحات اللغوية والرموز الثقافية الكامنة في ثناياها. حيث تنكسر القواعد لصالح الومضة الشعرية، ليصير الهايكو نافذة على دهشة الوجود، فالشاعر لا يَسحب الدلو من البئر، بل ينتظر على الحافة حتى تمطره السماء بمعنى يتدفق كالماء.

في أحضان النص :
ــ التحليل :
  هذا الهايكو يجسد ببراعة روح الهايكو الياباني في التقاط لحظة طبيعية عابرة ومكثفة، مُحْدِثا دهشة وتأملا عميقا من خلال الإيجاز والتكثيف والصورة المركزة. فهو يقدم مشهدا طبيعيا محددا وواضحا : دَلْوٌ موضوع على حافة بئر، واللحظة التي يبدأ فيها المطر بملئه؛ فيبدو أنه مشهد بسيط ويومي قد لا يثير الانتباه، لكنه يحمل دلالات عميقة حول دورة الحياة، والعطاء الطبيعي، والامتلاء غير المتوقع.
فهو يبدأ بمشهد بصري من خلال السطر الافتتاحي : “على حافة البئر”، الذي يحدد الإطار المكاني بدقة، فـ”البئر” يوحي عادة بمصدر للمياه الجوفية، وبمكان يتم فيه استخراج الماء بجهد، ووجود الدلو على “الحافة” يُشير إلى وضع الاستعداد أو الانتظار.
فهذا السطر الافتتاحي عبارة عن شبه جملة من الجار “على”، والمجرور المضاف “حافة”، والمضاف إليه “البئر”. ولحرف الجر “على” مجموعة من المعاني والدلالات منها : الاستعلاء سواء كان حقيقيا أو مجازيا، الظرفية، المجاوزة، التعليل، الموافقة، والاستدراك والإضراب.. وهنا يفيد الاستعلاء حقيقة وهو وقوع الدلو فوق الحافة.
وعند الابتداء بشبه الجملة يكون في محل رفع خبر مقدم بشرط أن يكون المبتدأ المؤخر نكرة غير مفيدة، لكن الشاعر هنا جعل المبتدأ معرفة “الدلو”، وهذا اختيار دقيق ومبرر فنيا، فالمشهد لا يحتمل النكرة، فلو قال: “على حافة البئر دلوٌ” لَصور دلوا عشوائيا غير محسوم الهوية يضيع معه ترابط المشهد، وكذا عُمق الرواية باعتبار أن كل حركة في الهايكو تحاكي لحظة مألوفة مُعرَّفة. كما أن شبه الجملة ليس مقصودا بالإخبار، إنما المقصود هو السطر الأخير/الجملة الفعلية “يملؤه المطر” التي جاءت في محل رفع خبر للمبتدإ “الدلو”.
لذا فيمكن اعتبار شبه الجملة في محل نصب حال متعلق بمحذوف وجوبا تقديره “مُستقرّاً”، وهذا المتعلق المحذوف في الحقيقة هو الحال، فتقديم شبه الجملة/الحال على صاحب الحال رغم أنه خرق للقواعد النحوية إلا أنه مقصود من الشاعر باعتباره التفاتة بلاغية لإحداث صدمة الانتظار، وكذا خدمة للبعد الدرامي للمشهد وللإيقاع البصري، وخدمة لفلسفة الهايكو المرتكزة على التكثيف والصدمة الشعرية، قال أدونيس : “الشعر الحقيقي يبدأ حيث تنتهي القواعد”. وعندما نقرأ الهايكو ككلّ موحد، نجد أن التقديم والتأخير يخلقان إيقاعا بصريا متصاعدا انطلاقا من المكان/الحال (حافة البئر) مرورا بالأداة (الدلو) وصولا إلى الحدث (يملؤه المطر).
والمتتبع لنصوص الهايكو للشاعر سامح درويش يرى اعتماده على تقنية الانقطاع في نهاية السطر الأول بعلامة القطع (الفاصلة “،”)، التي تخلق توترا تأويليا أو فسحة تأويلية مانحة للقارئ مساحة للتأمل والتأويل قبل أن ينتقل إلى الحدث في السطرين المواليين، وهذه التقنية تعكس فهما عميقا لآليات التشويق والإدهاش في الهايكو، إلا أن الشاعر هنا غيَّبها لثلاثة أسباب؛ أولها : طبيعة المشهد الافتتاحي “على حافة البئر” فهي صادمة ولا تحتمل التوقف، لأن الصورة يجب أن تندفع كاللقطة السينمائية. وثانيها : الإيقاع المتسارع؛ فلو تم وضع فاصلة آخر السطر لتكسر تسلسل المشهد : “الحافة ـ الدلو ـ المطر” الذي يشبه ثلاث لقطات متتالية سريعة. ثالثها : التأجيل المدروس؛ فالشاعر يؤخر الصدمة التأويلية للنهاية، فعندما يصل القارئ إلى السطر الأخير : “يملؤه المطر” هنا فقط يحتاج لتوقفٍ وتأملٍ، وهذه قمة الإدهاش. وهذا الانزياح عن أسلوب الشاعر المعتاد ليس إهمالا، إنما هو قرار فني يعكس فهم الشاعر لاختلاف المشهد، وكأنه يقول : “التقنيات تخدم المعنى، وليس العكس”.
والسطر الثاني : يتكون من كلمة واحدة : “الدلو” وهو تجسيد لفلسفة الهايكو في الإيحاء بالكثير بأقل الكلمات. فهو كلمة بسيطة ومباشرة،
 تُشير إلى أداة أساسية لجلب الماء من البئر. فيصبح الدلو هنا محور المشهد، ومُستقبِل العطاء، وله دلالات عدة وخاصة في الشعر العربي، فهو رمز للخير والبركة والرزق كما هنا في النص، وقد يشير إلى الجهد والمشقة في الحصول على الماء، وقد يدل على الكرم والعطاء، وأيضا يستخدم مجازا للإشارة إلى المشاركة في أمر ما أو تقديم رأي، عندما نقول : “أدلَى بدلوه في النقاش”، فإنه يعني أنه قدّم رأيه أو شارك في النقاش.

قال جرير :
أدلَيتُ دَلويَ في الفُرّاط فاغتَرفَتْ
في الماء فَضْلٌ وَفي الأعطان مُتّسَعُ

وقال ابن الرومي :
وأدليتُ الدِّلاءَ فلم تَؤُبْ لي
بملءٍ من نَداك ولا قُرابِ

وقال الأعشى :
سَمِعتُ بسَمعِ البَاعِ وَالجودِ وَالندى
فأدلَيتُ دَلْوِي، فاستَقتْ برِشائِكَا

وقال الفرزدق :
نهَزْتَ بِدَلْوٍ يَملأُ الأرْضَ نصْفُها
وَخَيرُ دلاء المُسْتَقِينَ سَجيلُهَا

والسطر الثالث : “يملؤه المطر” يُفجر الدهشة ويُكمل الصورة، فبدلا من أن يمتلئ الدلو بالماء المستخرج من البئر بجهد بشري، يأتيه الامتلاء من السماء بعطاء الطبيعة، فالمطر مصدر الحياة والخصب والنقاء.
فرغم أن هذا الهايكو لا ينضبط للمقاطع الصوتية (5ـ7-5) كما الهايكو الياباني لصعوبة تطبيقه في اللغة العربية، إلا أنه يحقق نقطة “قطع” قوية وواضحة (كيريجي) بين السطرين الثاني والثالث، فالسطران الأولان “على حافة البئر / الدلو” يُقدمان الوضع المألوف أو التوقع (دلو عند بئر لملئه من البئر)، ثم يأتي السطر الثالث ليُحدث المفارقة والدهشة : “يملؤه المطر”. لأن عادة ما يُستخدم الدلو لرفع الماء من البئر، إلا أن المفارقة هنا هو حدوث العكس أو ما هو غير متوقع،  بحيث أن المطر هو الذي يملأ الدلو. فهذه المفارقة تُبرز عنصر العطاء الطبيعي الذي يأتي دون جهد، وتُشير إلى وفرة غير متوقعة أو نعمة سماوية. هذا الانتقال من الدور المتوقع للدلو إلى دوره كمستقبل للمطر هو جوهر الكيريجي هنا.
كما أن هذا الهايكو يُعد مثالا ممتازا للهايكو التقليدي لأنه يتضمن كلمة الفصل “الكيغو”وهي كلمة “المطر” التي تشير إلى فصل الشتاء أو موسم الأمطار، وهذا يُثبت الهايكو في سياق موسمي طبيعي.
فعلى الرغم من غياب الوزن والقافية التقليديين، إلا أن هذا الهايكو يحقق الشعرية من خلال قوة الصورة المرئية المركزة المتمثلة في مشهد الدلو الذي يمتلئ بالمطر. والدهشة والمفارقة (الكيريجي) المتمثل في الكشف عن مصدر الامتلاء. والتكثيف والإيجاز المتمثلان في ثلاثة أسطر تُشكل مشهدا ذا دلالات عميقة وتخلق لحظة متكاملة ومُؤثرة، داعية القارئ
إلى إثارة أسئلة فلسفية حول الجهد الإنساني مقابل عطاء الطبيعة/القدر،
وكأني بالشاعر يهمس في أذن القارئ : “أعدّ قلبك كالدلو على حافة البئر، ليمتلئ بأنوار القَدَر”.

ــ خاتمة :
في ثلاثة أسطر استطاع الشاعر صناعة دلو شعري يمتلئ بالدهشة، إنه هايكو متكامل، يلتقط لحظة طبيعية بسيطة لكنها غنية بالدلالات، ويسلط الضوء على فكرة العطاء، والامتلاء، والتناغم بين الإنسان والطبيعة، ويبرز قوة الهايكو العربي في التعبير عن عوالم من التأمل بأقل الكلمات.

ندرك جيدا أنه لا يستطيع الجميع دفع ثمن تصفح الصحف في الوقت الحالي، ولهذا قررنا إبقاء صحيفتنا الإلكترونية “راي اليوم” مفتوحة للجميع؛ وللاستمرار في القراءة مجانا نتمنى عليكم دعمنا ماليا للاستمرار والمحافظة على استقلاليتنا، وشكرا للجميع
للدعم: