
الدكتور طارق ليساوي: معارك “إسرائيل” و حُماتها تأتي بنتائج عكسية
الدكتور طارق ليساوي
شهدنا طيلة الأسابيع و الأيام الماضية متتالية من الحروب الخاطفة و المحدودة بين الهند وباكستان، وإسرائيل وإيران ، وقد توقفت بسرعة شديدة و تم وقف إطلاق النار بين الأطراف في وقت قياسي ، لكن حرب الإبادة الجذرية لازالت مستمرة في غزة الصامدة ..وتوقف الحرب نتيجة لتوفر إيران و باكستان على أدوات القوة التي تمكنها من الردع و تحقيق درجة من الإيلام للعدو، و الأهم بنظري توفر حلفاء على إستعداد لدعم البلدين في حربهما عسكريا و سياسيا ، و هم ما سجلناه من خلال دعم الصين لباكستان في حربها ضد الهند ، و دعم باكستان لإيران في حربها ضد الكيان الصهيوني ..
الأجندة الصهيونية
بينما غزة المحاصرة منذ 2006 لم يتوفر لها حلفاء على درجة كبيرة من الجاهزية و المخاطرة السياسية ، صحيح ان إيران و اليمن و حزب الله قد قدمت دعما محمودا و مقدرا للمقاومة قبل و بعد 7 أكتوبر 2023، غير أن هذا الدعم غير كافي في مواجهة عدو يحظى بدعم لا محدود من قبل الغرب و العرب أيضا ، للأسف غزة محاطة ببلدان عربية تفتقر للسيادة و لرؤية سياسية واضحة و مدركة لحقيقة التهديد الصهيوني، أنظمة فضلت تبني و تنفيذ الأجندة الصهيونية و الانخراط في معركة إضعاف المقاومة و شيطنتها..
قوة النيران
و الواقع أن الهجوم المحموم على غزة لا يمكن تفسيره إلا بثقل الهزيمة ، فمن وقفوا سرا و علنا في صف إسرائيل، إعتقدوا أن قوة النيران و الحرق و التدمير كافية لكسر إرادة المقاومة و إرباك حاضنتها الشعبية، لكن ما حدث في غزة لا يمكن تفسيره بموازين القوة، فهناك إعتبارات أخرى ذات أهمية بالغة في تغيير قواعد و قوانين المواجهة و من ضمن هذه العوامل المؤثرة العقيدة الصلبة و قوة الحق ووضوح المنهج و الهدف ، من المؤكد أن العدو الصهيوني متفوق عسكريا و يقف من خلفه حلفاء أقوياء و داعمين أوفياء و أغنياء، بينما غزة تفتقر للسلاح و العتاد و الحلفاء الأقوياء و الأغنياء، و لم يقف بجانبها إلا قلة من الشرفاء و الأحرار، لكن غزة تحارب و تقاوم و هي بمعية رب العالمين ..
وجهان لعملة واحدة
و هنا لابد من فتح قوس و التأكيد على أن من يقف بجانب غزة و فلسطين ، يقف بالضرورة بجانب المصلحة الوطنية لوطنه ، فلا تعارض بين المصلحة الوطنية و المصلحة القومية ، لأن الكيان الصهيوني يعادي الجميع و خطره الساحق و الماحق يشمل كامل الإقليم العربي و الإسلامي..و في بلدي المغرب أبتلينا بطائفة تؤمن بأن مصلحة المغرب في الوقوف بجانب الكيان الصهيوني ، و هؤلاء هم دعاة ” كلنا إسرائيليون” ، و بعضهم يتبنى شعار حمال لأوجه “تازة قبل غزة” ، و الواقع أني اتفق مع ضرورة الاهتمام بتازة ، بل أرى أن تنمية تازة و استقرارها و رخاءها يصب في مصلحة غزة و لا تعارض بين الجبهتين و الموقعين ، لكن من خلال تحليل المواقف و ماهية الخطاب و غاياته، يظهر أن محور الاهتمام و بؤرة التركيز الهجوم المشبوه على غزة و مقاومتها، صحيح تم تدمير غزة لأنها تعرض لعدوان عالمي و ليس فقط عدوان صهيوني، فغزة لم تحارب إسرائيل ، و لكن حاربت أمريكا و أغلب بلدان الغرب ، بل انضم لهذا الحلف الدولي حكومات عربية..
إنجاز تاريخي
المعركة بين إيران و الحلف الصهيو-أمريكي ، أكدت لنا مجددا مدى نوعية و أهمية الإنجاز الذي حققته المقاومة في غزة، فإيران الدولة القوية و المستقرة و التي تملك قدرات و موارد لا يمكن إنكارها أو تجاهلها ، و مع ذلك لم تستطيع الصمود طويلا في مواجهة العدوان الصهيو-أمريكي، صحيح أنها لم ترفع الراية البيضاء، و نجحت في إيلام الكيان الصهيوني و دك تحصيناته و إختراق قببه و عملت على رد الصاع صاعين، لكن ذلك لا يخفي حقيقة تعرضها لضربات نوعية ثقيلة ، فيكفي أنها فقدت قيادات الصف الأول العسكرية و النووية، و إذا كانت إيران و ما أدراك من إيران ، تعرضت لهذه الضربات ، فإن قدرة المقاومة المحاصرة و المنكوبة بخذلان الجوار على الصمود لأزيد من 20 شهر ، و توجيه ضربات نوعية مع فشل الكيان في تحرير أسراه و إنهاء المقاومة و نزع سلاحها و سيطرتها على القطاع ، فإن كل هذه الإنجازات الأسطورية لرجال غزة و نسائها و شيبها و شبابها يدعو حقا للدهشة .. فصمود المقاومة أكد أن الكيان الصهيوني هش ، و أن ساعة زواله قد دقت، و جاءت ضربات إيران لقلب الكيان لتؤكد أن عقدة العقد الثامن قاب قوسين أو أدنى من التحقق ..
إنجازات دموية
و ليس في الأمر إندفاع أو تفاؤل متحرر من الواقعية، فمعارك الكيان و حلفائه جاءت بنتائج عكسية ، سيدفع الكيان فاتورتها عندما تتوقف دورة حرب الإبادة الجدرية ، فما الذي حققه الصهاينة من إنجازات غير الدمار و إرتكاب جرائم الحرب و رفع منسوب كراهيتهم لدى كل الشعوب العربية و غير العربية ، هل نجح الكيان في تحرير أسراه ؟ هل نجح في تأمين حدوده المغتصبة ؟ المقاومة لازالت تسقط جنود العدو كل يوم تلحق به خسائر معتبرة ، بل إذا إستمر الوضع فالمواجهة ستنتقل ساحتها الأساسية من غزة إلى الضفة الغربية بل إلى ما وراء الخط الأخضر ، فالكيان حكومة و شعبا فشل في الانتصار على المقاومة و كسر بندقياتها و إخماد لهيب نيرانها ..
تحلل تدريجي
فالكيان الصهيوني يتحلل تدريجيا ، و ما يحدث غير مسبوق في تاريخ الكيان ، فالكيان يعاني من نزيف حقيقي يخفيه الإسرائيليون عن اقتصادهم الذي تنهشه الضربات واحدة تلو الأخرى، فهجمات إيران على الكيان طيلة الأيام الماضية كلفت الكيان خسائر بشرية و مادية مهمة ..فقد أشارت صحيفة “يديعوت أحرونوت” إلى الهجمات الإيرانية كلفت الكيان 25 قتيلا إسرائيليا و إصابة 2572 بجروح متفاوتة، و أن 8190 إسرائيليا جرى إجلاؤهم من منازلهم جراء القصف الإيراني، وانطلقت صفارات الإنذار 8290 مرة في مختلف المدن والمستوطنات.
وأضافت الصحيفة أن الهجمات شملت إطلاق 480 صاروخا و1110 طائرات مسيَّرة من الجانب الإيراني، بينما سقط 55 صاروخا داخل الأراضي الإسرائيلية دون اعتراضها.
أما على الصعيد الاقتصادي، فقد قدَّر معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي التابع لجامعة تل أبيب، في تقرير نُشر عصر أمس الجمعة، أن قيمة الأضرار المادية المباشرة التي لحقت بإسرائيل بلغت نحو ملياري شيكل (575 مليون دولار)، في حين تقدَّم 30735 إسرائيليا بشكاوى للحصول على تعويضات عن الخسائر التي لحقت بهم.
وبحسب المعهد، فإن عدد الهجمات بلغ أكثر من 520 صاروخا و1050 طائرة مسيَّرة حتى وقت إعداد التقرير، في حين تم تسجيل سقوط 52 صاروخا ومسيَّرة دون اعتراضها.
و تكلفة الحرب تجاوزت 5,000,000,000$ خلال أسبوع فقط، و قامت أكثر من 400 شركة أجنبية ومحلية عطّلت عملياتها مؤقتا أو جزئيا، كما بدأت شركات عالمية بدأت بخطوات إغلاق مقراتها، و معهد وايزمان الذي تم قصفه كلف الكيان خسائر تقدر بأكثر 2,000,000,000 شيكل، أما أضرار المباني فقد تجاوزت 400,000,000$..
هذا فضلا عن إغلاق الخطوط الجوية وتوقف السياحة بشكل تام، و نزوح جماعي من الكيان لوجهات أروبية و عربية، فحوالي نصف مليون صهيوني هاجروا بلا عودة. فأسطورة الكيان قامت على أساس الأمن و المال ، و ضرب هذين المكونين يعد عنصرا حاسم في نهاية دولة الإبادة و الفصل العنصري ..
لعنة العقد الثامن
و قد أشار محللون صهاينة في مقال نشر بجريدة معاريف الصهيونية قبل طوفان الأقصى بأشهر ، إلى زوال الكيان الصهيوني قبل نهاية عقده الثامن سنة 2027 من منطلق أن جميع دول اليهود التي أنشئت كانت نهايتها في العقد الثامن كدولة سيدنا داوود ودولة خمونائيم ..وكثير من الدول في العالم لم تتجاوز لعنة العقد الثامن ومنها الاتحاد السوفياتي. ويفسرون ذلك بأن العقد الثالث يعرف ظهور الجيل الثالث على الساحة وهو ما يتفقون فيه مع ألذ أعدائهم من اسلاميي فلسطين من أمثال الشيخ أحمد ياسين والشيخ باسم جرار وهي نفس نظرية ابن خلدون في مقدمته عن نشوء الدول وانتهائها.
إيهود باراك
و هو الأمر الذي أكده رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق “إيهود باراك” الذي عبر في مقال له بصحيفة “يديعوت أحرونوت” الصهيونية عن مخاوفه من قرب زوال إسرائيل قبل حلول الذكرى الـ80 لتأسيسها، مستشهدا في ذلك بـ”التاريخ اليهودي الذي يفيد بأنه لم تعمّر لليهود دولة أكثر من 80 سنة إلا في فترتين استثنائيتين”.
و مما جاء في مقاله : “على مرّ التاريخ اليهودي لم تعمر لليهود دولة أكثر من 80 سنة إلا في فترتين: فترة الملك داود وفترة الحشمونائيم، وكلتا الفترتين كانت بداية تفككها في العقد الثامن”.
وأضاف قائلًا إن تجربة الدولة العبرية الصهيونية الحالية هي التجربة الثالثة وهي الآن في عقدها الثامن، وإنه يخشى أن تنزل بها لعنة العقد الثامن كما نزلت بسابقتها.
وأشار إلى أنهم ليسوا وحدهم من أصابتهم لعنة العقد الثامن؛ “فأميركا نشبت فيها الحرب الأهلية في العقد الثامن من عمرها، وإيطاليا تحولت إلى دولة فاشية في عقدها الثامن، وألمانيا تحولت إلى دولة نازية في عقدها الثامن وكانت سببا في هزيمتها وتقسيمها، وفي العقد الثامن من عمر الثورة الشيوعية تفكك الاتحاد السوفياتي وانهار وانفرط عقده”.
وتابع قائلا “إن إسرائيل تقع في محيط صعب لا رحمة فيه للضعفاء”، محذرا من العواقب الوخيمة للاستخفاف بأي تهديد، قائلا “بعد مرور 74 عاما على قيام إسرائيل أصبح من الواجب حساب النفس”، منبّها إلى أن “إسرائيل أبدت قدرة ناقصة في الوجود السيادي السياسي”.
كما ذكر أن “العقد الثامن لإسرائيل بشّر بحالتين: بداية تفكك السيادة ووجود مملكة بيت داود التي انقسمت إلى يهودا وإسرائيل، وبوصفنا كيانا وصلنا إلى العقد الثامن ونحن كمن يتملكنا العصف، في تجاهل فظ لتحذيرات التلمود”.
زوال أنظمة عربية
والجدير بالذكر ، أن الشيخ محمد الغزالي رحمه الله قال بدوره ” إن زوال إسرائيل قد يسبقه زوال أنظمة عربية عاشت تضحك على شعوبها، ودمار مجتمعات عربية فرضت على نفسها الوهم والوهن، قبل أن يستذلها العم أو الخال، وقبل أن ينال من شرفها غريب : ” إنه لا شيء ينال من مناعة البلاد، وينتقص من قدرتها على المقاومة الرائعة، كفساد النفوس والأوضاع، وضياع مظاهر العدالة، واختلال موازين الاقتصاد، وانقسام الشعب إلى طوائف، أكثرها مُضيع منهوك، وأقلها يمرح في نعيم الملوك..”
فأحداث غزة أسقطت الكثير من الأقنعة و كشفت عورات الأنظمة و النخب الفكرية و السياسية و الدينية التي بلغت درجة كبيرة من الفساد و العمالة والتبعية لأعداء الأمة، و هذا عنصر إيجابي في طريق نهضة و يقظة الشعوب العربية والإسلامية ، و ما توالي انتفاضات الشعوب في مختلف أقطار العالم العربي المنكوب إلا دليل على هذا الوعي و الإدراك و الرغبة الجامحة لتحرير الإرادة الشعبية..و الله غالب على أمره و لكن أكثر الناس لا يعلمون ..
كاتب و أستاذ جامعي ..
ندرك جيدا أنه لا يستطيع الجميع دفع ثمن تصفح الصحف في الوقت الحالي، ولهذا قررنا إبقاء صحيفتنا الإلكترونية “راي اليوم” مفتوحة للجميع؛ وللاستمرار في القراءة مجانا نتمنى عليكم دعمنا ماليا للاستمرار والمحافظة على استقلاليتنا، وشكرا للجميع
للدعم: