طه درويش: عَنْ سنواتِ التّيه وأعوامِ الضّياع في المُدُنِ القاحِلَة

طه درويش: عَنْ سنواتِ التّيه وأعوامِ الضّياع في المُدُنِ القاحِلَة

طه درويش: عَنْ سنواتِ التّيه وأعوامِ الضّياع في المُدُنِ القاحِلَة

طه درويش

هكذا تنْبَثِقُ البِداية..

أحلامٌ بالسّفرِ بعيداً.. بعيداً.. بحثاً عن “الفردوس المفقود”.. وسعياً وراء كنوز “الحياة في مكانٍ آخر” – على حدّ تعبير ميلان كونديرا – .. وأَمَلاً في مُعانقةِ “راحةٍ ما” لروحٍ وَحيدة.. ترى في “البلاد البعيدة” فرصةً مِن “ذَهَبٍ”.. وأُفُقاً مِنْ سعادات.. وَشواطىء مِنْ بهجة.. وأملاً باستعادةِ دهشةِ الحياة.. وترميمِ “جراحات القلب”.. ووقفِ “نزيف الرّوح”.. وَابتعاداً عَنِ “النّفوس الميتة”.. والوجوه الكالِحة.. وتِلكَ الأرواح الصّدِئة!!

وماذا بعد ؟!

سنواتٌ من “التّيه” في “صحارى” العالَم..

وأعوام مِنَ الضّياع في “المُدُن”القاحِلَة الّتي لا تُشبهكَ ولا تُشبهها..

“سنواتٌ” عِجافٌ تغتالُ كُلّ شيء فيكْ..

وتعملُ بصمتٍ على إفناء الذّكريات/ذكرياتكَ بشراسةٍ طاحِنَة..

وَوَأْدِ الحنينِ/حنينك بقساوة جارِحَة..

وتجريدِ الذاكرة/ذاكرتك من عِشْقِ أمكِنَتِها الأولى.. وطفولتها الأولى.. وبئرِ “ذكرياتها” الأولى.. وَوَجْهِ “أُمّكَ” ذاكَ الّذي يُشبِهُ “القَمَر”.. وَعَنْه نَأَيْتَ سَعياً وَراء وَهْمِ “القَمَر”!

وماذا أيْضاً ؟!

في مَساءاتِ “الغُربَة” الكالِحَة ..

وَمِنْ قَلْبِ عَتْمَتِها الموحِشة..

وحيداً تَعودْ .. تعودُ وحيداً إلى غرفتَكِ البارِدَة.. في الطّابِق السّابِع مِنَ البِناية  الكالِحَة بِلَوْنِها البُنّي الطالِع مِنْ عَتْمَةِ القَبْر..

تَجُرُّ رُوحَكَ جَرّاً.. كُلّ مساءٍ كئيب.. نَحْوَ “غُرفَةٍ” قاتِمَةٍ لا روح فيها.. و”ساعات” جامِدَة لا تَتَحرّك في لَيْلٍ “إنجليزيّ” قاحِلٍ.. وَطويلٍ.. وَرَتيبٍ.. لَيْل يخلو من نَأْمَة حَيَاة..

تُداري لَيْلَتَكَ..وَعَلَيْها تَحتالْ..

تَبدأ بِعَدّ خَساراتِ يَومِكَ عَدَّاً.. صارِخاً في صحارى العمرِ وبَراري القَلْب :

 ورقةُ يومٍ جديدٍ تَسقُطْ ..

 و”الرُّوحُ” في أَعماقِكَ لم تَزَلْ نازِفَةْ

***

هُنا… الآن وَهُنا.. يكمنُ الرّعب وترقدُ المأساة:

الكائنُ البشريّ فيكَ “يَشيخ”..

والحنينُ يَجِفّ..

والنّهايةُ تقترب..

فلا “الفردوس المفقود” عانَقْتْ..

ولا “جراحات القلب” رَمَّمْتْ..

ولا “نزيف الرُّوح” أَوْقَفْتْ!!…

***

في الهَزيعِ الأخير مِنَ الغُربَة ..

تُلقي القَبْضَ على ذاتِكَ إذْ تُناجي ذاتَكَ :

كَيْفَ تَجَرَّعتَ “بِئْرَ” الأَلَمِ ذاكْ.. مِنْ دونِ قَطرَةِ “فَرَح”…!

وَكَيْفَ احتَسَيْتَ “قَهْوَة” الغُربَةِ المُرَّة..

مِنْ دونِ حَبَّةِ “سُكَّر”.. !!

كاتِب وأكاديمي أردني

ندرك جيدا أنه لا يستطيع الجميع دفع ثمن تصفح الصحف في الوقت الحالي، ولهذا قررنا إبقاء صحيفتنا الإلكترونية “راي اليوم” مفتوحة للجميع؛ وللاستمرار في القراءة مجانا نتمنى عليكم دعمنا ماليا للاستمرار والمحافظة على استقلاليتنا، وشكرا للجميع
للدعم: