حسن الحضري: مثاليَّة المفكِّر في رواية “الرِّباط المقدَّس” لتوفيق الحكيم

حسن الحضري: مثاليَّة المفكِّر في رواية “الرِّباط المقدَّس” لتوفيق الحكيم

حسن الحضري: مثاليَّة المفكِّر في رواية “الرِّباط المقدَّس” لتوفيق الحكيم

حسن الحضري

قدَّم الكاتب الروائي المصري توفيق الحكيم [ت: 1987م] في روايته “الرباط المقدس” رؤيته حول ما يجب أن يتوافر في شخصية المفكر من صفات، باعتباره أحد مصابيح الظلام التي تهتدي بها الأمَّة، وقد رمز توفيق الحكيم لشخصية المفكر في روايته باسم (راهب الفكر)، ثم أسقط عليه من الدلالات ما يرفعه إلى درجة المثاليَّة؛ فإنَّ ذلك المفكر قد «أحسَّ تبعة تأثيره في الناس فأخذ عمله مأخذ الجد، ولم يشأ أن يخادع الناس فيقول ما لا يعمل، إنه كان يؤمن بأنَّ واجب رجل الفكر والقلم أن يُدخِل على البشر الإيمان بأنَّ في إمكانهم أن يَسْموا على أنفسهم، وأن هذا الواجب يفرض عليه أن يعيش حياة سامية لا مطعن فيها ولا غبار عليها».
فهو مؤمن بقول الله تعالى (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ) [البقرة: 44]، وهذا الموقف الذي اتخذه راهب الفكر تجاه نفسه؛ هو الموقف ذاته تجاه الآخرين؛ فقد «كان دائمًا يزدري أولئك الذين ينشرون على الناس أدبًا رفيعًا وجمالًا بديعًا، ثم يعيشون حياة كلها ضَعَة وخسَّة وقُبح، الكاتب الحق في نظره هو مثَل يُحتذَى في باطنه وظاهره، وإن لم يكن كذلك فهو إذًا مهرِّج، يلبس للناس على الورق ثياب الملوك، فإذا خلا بنفسه خلعها، فبدا في حقارته كأنه شحاذ»، فهو يستمد أفكاره من الفطرة الصحيحة التي فطر الله الناس عليها، ويؤمن بقول الله تعالى (كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ) [الصف: 3].
وقد أكد راهب الفكر إيمانه العميق بمبادئه فقال: «إني لأدهش لأولئك الذين أُعطوا المقدرة على خداع الناس، فيظهرون في المجتمع في مسوح القدِّيسين، وهم في باطنهم مِن أفجر الماجنين»، ثم يستطرد الكاتب مبيِّنًا مثاليَّة راهب الفكر؛ الذي يقول واصفًا نفسه: «إني في الباطن خير بكثيرٍ منِّي في الظاهر؛ لأن الباطن مِلكي ومِن صُنعي، ولكن الظاهر مِلك الناس ومِن صُنع الظروف، لم أحاول يومًا التمثيل فأصنع للناس ظاهرًا رائعًا بِيَدي؛ بل تركتهم يصنعون لي ما شاؤوا من أردية، دون أن أحفِل بغير حقيقتي التي أعيش معها داخل نفسي، بينما أنا أبدو للناس أحيانًا هازلًا دائم الابتسامة، وفي باطني الجد، وفي طبيعتي الصرامة».
 إنها المثالية التي يستوحيها توفيق الحكيم من خياله ويرجو تحقيقها، مؤكدًا أنها الصفات التي يجب أن يتحلى بها المفكر، الذي يسمِّيه في روايته أحيانًا بالأديب وأحيانًا بالكاتب، وهو في كل حالٍ يعمل في مجالات متعددة من مجالات الفكر الإنساني، وهو موقن دائمًا أنَّ «كل شيء ساكن خلا الفكر، ما الفكر إلا الحركة الكبرى».
يرى الكاتب أنَّ الفكر أساس من أسُس التوافق، ولا بدَّ من وجوده بين الأزواج، لذلك قال على لسان خطيبٍ لخطيبته التي لا تحب القراءة: «لن يُحدِث الزواج بيننا ذلك الاتصال التام الذي طالما تمنيته في زوجتي؛ فإنَّ نصف الحياة -الفكر- سيبقى خارج نطاق الزوجية»، ويبدو أن الكاتب كانت لديه رؤية عامة أو شِبه عامة حول علاقة المرأة بالثقافة في زمانه؛ فقد قال على لسان ذلك الخطيب بعد أن تزوج خطيبته واستمر في محاولات جذبِها إلى القراءة: «إني كدت أقنط من المرأة في بلادنا، ولطالما قلت لزوجتي: إنها قد تظفر منِّي بالعطف، ولكنها لن تظفر أبدًا بالإجلال الواجب لها إلا إذا عرف عقلها كيف يخاطب عقلي».
ويظهر في هذه الرواية أثر الحقبة الزمنية التي عاصرها توفيق الحكيم؛ حيث كان النوع السائد من المدنيَّة والتحضر عند المرأة هو ما يتعلق بالمظهر الخارجي، الذي اعتمد في جوهره على تقليد الغربيِّين، ويبدو هذا الأثر في قول توفيق الحكيم على لسان زوج تلك الشابة الصغيرة التي لم تكن تهتم بالقراءة حين تزوجها: «تلك الفتاة الجاهلة ذات التعليم الزائف، لا يعدو حديثها بضع عبارات فرنسية تلوكها في سماجة كلما أحرجتها الظروف، تلك الفتاة المسكينة المغرورة التي تحسب أنها متمدِّنة لأنها عرفت أن تضع بين أناملها أصبع الأحمر، تلك الفتاة التي تعرف أنَّ لها فمًا يجب أن يُملأ، ولا تعرف أنَّ لها رأسًا يجب أن يُملأ أيضًا إذا أرادت أن تجعل من نفسها شخصًا جديرًا بالاحترام».
وهذا يوضح أنَّ من مهامِّ المفكر عند توفيق الحكيم توعية الناس بأهمية الثقافة المحلية؛ فهي التي تتوافق مع التكوين النفسي والمؤثِّرات البيئية في المجتمع الذي يعيشون فيه، وقد شهدت الحقبة الزمنية التي كتب الحكيم خلالها هذه الرواية؛ إقبالًا ملحوظًا من بعض فئات المجتمع وطبقاته، على تعلُّم كلماتٍ وعباراتٍ أجنبية يرون أنها تميزهم من العامة وترفعهم فوقهم، وقد كان توفيق الحكيم ضد ذلك الاتجاه، فاهتم بنقد هذه الأفكار، والدعوة إلى الفكر الصحيح الذي يتأتَّى من خلال القراءة والمطالعة، وذلك في إطار الثقافة العربية والإسلامية التي تشكِّل هويَّتنا.
ويرى توفيق الحكيم أن المفكر يجب أن يكون ناصحًا أمينًا، يقدِّم للناس الحكمة بعد أن يعمل هو بها، لذلك ختم روايته بإحدى الحِكَم على لسان الراهب: «الشجاعة ليست في تجنُّب مزالق الجسد، وتحاشِي مواطن الزلل؛ بل في مواجهتها بمصباح الحقائق ونور المُثُل العليا»، ومن أجل هذه المُثُل عانى راهب الفكر كثيرًا في أحداث الرواية؛ فقد وجد نفسه في موقفٍ حرِجٍ أكثر من مرة بسبب كتمان الزوجة على زوجها أمر ذهابها إليه، ووقع راهب الفكر في حيرة من أمره، بين إخبار زوجها الذي بدأ يتردد إليه أيضًا وبين الكتمان، وفي كل مرة كان يوازن بين النتائج المتوقَّعة، ويحرص على الخيار الأقل ضررًا، كما كان يراعي في أفعاله ما يليق بمكانته ولو كان ضد سعادته المؤقتة؛ ويقصد الكاتب من هذه الأحداث والمواقف التي سردها في روايته؛ أن يبيِّن الصفات التي يجب أن يتحلى بها صاحب الفكر، بحيث يرتقي إلى المثاليَّة، التي يحافظ بها على مكانته، ويصون بها فِكره الذي يكتبه وينشره ليفيد به المجتمع.
شاعر وكاتب مصري

ندرك جيدا أنه لا يستطيع الجميع دفع ثمن تصفح الصحف في الوقت الحالي، ولهذا قررنا إبقاء صحيفتنا الإلكترونية “راي اليوم” مفتوحة للجميع؛ وللاستمرار في القراءة مجانا نتمنى عليكم دعمنا ماليا للاستمرار والمحافظة على استقلاليتنا، وشكرا للجميع
للدعم: