كلايف كروك يكتب: استقلالية “الاحتياطى الفيدرالى” فى مهب رياح ترامب – وطني

كلايف كروك يكتب: استقلالية “الاحتياطى الفيدرالى” فى مهب رياح ترامب – وطني

حتى الآن، أطاح الرئيس دونالد ترامب والكونجرس الخاضع لهيمنة الجمهوريين باثنتين من الركائز الثلاث التي شكّلت لعقود دعائم السياسة الاقتصادية الأمريكية: تعزيز التجارة الدولية، والحفاظ، وإن شكلياً، على الانضباط المالي.

أما الركيزة الثالثة، وهي تفويض السياسة النقدية إلى بنك مركزي يحظى باستقلالية تشغيلية، فقد تكون التالية على قائمة الاستهداف.

صحيح أن التراجع عن أي من السياسات ما قبل الترامبية، سواء في مجال التجارة أو الموازنة أو السياسة النقدية، ينطوي على مخاطر بحد ذاته، إلا أن ضربها مجتمعة يرفع منسوب التهديد إلى مستوى مختلف تماماً.

فمحاولة تقويض سلطات “الاحتياطي الفيدرالي” في وقت تتزايد فيه المخاوف من تضخم تغذّيه الرسوم الجمركية، ومن انفلات الدين العام، قد تفتح الباب أمام عاصفة اقتصادية مكتملة الأركان.

تسريبات مدروسة

لم يعد السيناريو القائم على التخلّف الجزئي عن سداد الدين العام عبر التضخم –أو ما يُعرف بسياسة “الهيمنة المالية”– احتمالاً بعيداً، بل عاقبة محتملة، بل حتى مرجّحة.

وما إن تبدأ الأسواق في استشراف هذا المسار حتى تتحوّل التوقعات إلى حقيقة. إذ تقفز توقعات التضخم، ومعها أسعار الفائدة طويلة الأجل التي لا يمكن لمجلس الاحتياطي الفيدرالي السيطرة عليها مباشرة.

وعندما تبدأ الأسعار بالارتفاع في ظلّ هذه الظروف، سيتطلب كبح التضخم مزيجاً من البطالة المرتفعة وتدابير تقشفية صارمة.

شرح رئيس الاحتياطي الفيدرالي، جيروم باول، أسباب الإبقاء على معدل الفائدة في الوقت الراهن عند مستوى مقيّد بشكل معتدل بين 4.25% و4.5%. فالتضخم لا يزال أعلى بقليل من المستوى المستهدف،

وقد يعود للارتفاع قريباً بسبب الرسوم الجمركية، على حدّ قوله، في حين أن معدلات البطالة لا تزال منخفضة، ما يستدعي التريث والترقب.

في المقابل، يطالب ترامب بخفض فوري لمعدلات الفائدة بمقدار 2.5 نقطة مئوية، ولكنه لا يكتفي بالتعبير عن اختلاف الرأي مع الفيدرالي بشكل لبق ، بل يكيل سيلاً من الإهانات لباول، على طريقته المعهودة.

رغم تأكيد “الاحتياطي الفيدرالي” –وهذا واجبه– أنه يركّز على مهمته ولا ينخرط في التجاذبات السياسية، فإن العداء الذي يبديه الرئيس بدأ يقوّض عملياً حريته في اتخاذ الإجراءات.

وحتى إذا لم يُقَل جيروم باول من منصبه (وهو احتمال تعترضه عقبات قانونية وسياسية)، فإن ولايته تنتهي في مايو المقبل، ومن شبه المؤكد أن الرئيس سيعيّن خلفاً موالياً له.

وبالفعل، بدأت التسريبات المدروسة بشأن هوية الرئيس المحتمل، وقد لا يطول الأمر قبل أن يبدأ “الخلف المنتظر” في التشكيك بقرارات المجلس، حتى يوصل موقفه لصنّاع السياسات الآخرين.

وحدة الصف داخل المجلس

هل بوسع “الاحتياطي الفيدرالي” أن يتصدّى لهذا المسار؟ الواقع أن قدرته على ذلك محدودة. فحين تعتزم الإدارة السيطرة على المصرف المركزي، هي تنجح في نهاية المطاف، وذلك عبر مزيج من التعيينات والضغوط السياسية. فاستقلالية “الفيدرالي” ليست محصّنة بنص قانوني ملزم، ولا يكفلها الدستور، بل هي مجرد عرف في أفضل الأحوال.

وإذا كانت السنوات الأخيرة في السياسة الأمريكية قد أثبتت شيئاً، فهو أن الأعراف يمكن وضعها جانباً.

ومع ذلك، وعلى أمل ألا يكون الوقت قد فات، بوسع “الاحتياطي الفيدرالي” اتخاذ بعض الخطوات في محاولة لدرء تهميشه المرتقب.

من ِشأن وحدة الصف داخل مجلس الاحتياطي الفيدرالي أن تساعد على هذا الصعيد. ولا يعني ذلك الدخول المباشر في سجال مع الرئيس ترامب حول أهمية استقلالية البنك المركزي، أو تحذيره من الأثر السلبي المحتمل على شعبيته في أوساط الناخبين إن دمّر هذه الاستقلالية.

فمثل هذا النهج لن يؤدي إلا إلى استفزازه وتصعيد معركة لا قدرة للفيدرالي على الفوز بها.

سيخسر “الفيدرالي” المواجهة، وذلك في جزء منه على الأقل، لأن مبدأ الاستقلالية هو استثناء من الصعب الدفاع عنه.

فرغم أن الاستقلالية أثبتت جدواها ولا شكّ أنها أسهمت في التوصّل إلى سياسات أفضل، إلا أن إبقاء مؤسسة مالية بهذا الحجم محصّنة عن السياسة اليومية لا يتماشى تماماً مع روح “الديمقراطية”.

بدلاً من ذلك، ينبغي لصنّاع السياسات في الفيدرالي أن يتوحدوا حول نهج باول القائم على ضبط النفس اللبق في العلن.

كما عليهم تفادي كل ما قد يوحي بأن هناك معسكرين يتشكلان داخل المجلس، أحدهما موالٍ للرئيس، والآخر على خلافٍ معه. فالمحللون يترصّدون عن كثب أي مؤشرات على مثل هذا الانقسام.

ومؤخراً، صرّح اثنان من أعضاء مجلس محافظي الفيدرالي كريستوفر والر وميشيل بومان بأنهما قد يؤيدان خفض أسعار الفائدة في أقرب فرصة، ربما بدءاً من الشهر المقبل، وهو موقف لا ينسجم مع نهج باول، رغم أنهما كانا يُصنّفان سابقاً ضمن “الصقور” المتشدّدين في مواجهة التضخم.
قد يتبيّن لاحقاً أن موقفهما مبرَّر من الناحية الاقتصادية، تبعاً لما ستكشفه البيانات في الأسابيع المقبلة.

لكن من الصعب تبرير ما يمكن أن يُفهَم على أنه اصطفاف إلى جانب البيت الأبيض في خلافه مع باول.

وإذا كان صنّاع القرار في “الفيدرالي” مقتنعين فعلاً بأهمية الاستقلالية، فلمَ لا يلتزمون الصمت في الوقت الراهن؟

الاستناد إلى القواعد

هناك طريقة أخرى للدفاع عن عرف استقلالية “الاحتياطي الفيدرالي”، والحفاظ في الوقت نفسه على استقرار توقعات التضخم وتحسين قدرة المجلس على إيصال رسائله، وذلك من خلال إحياء أداة طالما همّشها الفيدرالي خطأً لسنوات.

فمن شأن اعتماد “قاعدة بسيطة” لتوجيه السياسة النقدية أن تكون نقطة الانطلاق (وربما نقطة الوصول أيضاً في كثير من الأحيان) عند اتخاذ قرارات معدلات الفائدة.

من أبرز هذه القواعد المعروفة، تلك التي تربط سعر الفائدة بالتغيرات الفعلية والمتوقعة في الناتج المحلي الإجمالي الاسمي. وهناك أيضاً “قاعدة تايلور”، إلى جانب عدد من النماذج المعدّلة عنها، والتي تربط معدل الفائدة بالفجوات بين معدلات التضخم والبطالة الفعلية وتلك المستهدفة.

ورغم أن هذه القواعد لا ينبغي لها –بل ربما لا يجوز لها– أن تملي سعر الفائدة، نظراً لتعدد المتغيرات المؤثرة، فإنها تساعد في رسم “الحالة المركزية”، وتنظيم النقاش، ومنع التحولات المفاجئة والحادة في السياسات. (كأن يُقرَّ خفضٌ فوريٌ بمقدار 2.5 نقطة مئوية مثلاً).

في عام 2018، طمأن جيروم بأول المعيّن حديثاً آنذاك، مراقبي الاحتياطي الفيدرالي المتمسكين بالقواعد حين قال أمام الكونجرس إنه يراجع هذه الحسابات بانتظام ويجدها مفيدة.

لكن منذ ذلك الحين، لم يصدر عن “الفيدرالي” ما يُشير إلى أي متابعة فعلية لهذه المقاربة.

زوال استقلالية الفيدرالي بات حتمياً

سُئل من باول خلال شهادته أمام الكونجرس الأسبوع الماضي عن سبب إبقاء “الاحتياطي الفيدرالي” على معدل الفائدة دون تغيير في اجتماعه الأخير، رغم أن أحد القواعد التي لم يحددها العضو الذي طرح السؤال، وإن بدا أنه يؤيدها، كانت تدعو إلى خفض الفائدة.

رد باول بأن المجلس يراقب خمس قواعد من نوع “قاعدة تايلور”، وأن أربعاً منها حالياً توصي بعدم تغيير المعدل، بينما تدعو واحدة فقط إلى رفعه.

مرّ هذا التبادل دون أن يثير اهتماماً يُذكر، كما تضمّن أحدث تقرير رفعه الفيدرالي إلى الكونجرس ملحقاً يشرح القواعد الخمس وتوصياتها، لكن المجلس لم يسلّط الضوء عليه، ولم يلقَ أي اهتمام يُذكر.

ورغم أنها أداة لإشراك الرأي العام في فهم السياسات النقدية، فإن وجود هذه القواعد من عدمه بات سيّان. مع ترامب أو من دونه، وهذا مؤسف.

ومع ذلك، كما سبق أن قلت، في ظلّ رئيس بهذه الدرجة من الحدة والتهوّر، وحدة الفيدرالي أو تقديمه إرشادات رزينة للرأي العام لن يحدث فرقاً.

يبدو أن وقت تحسين التواصل وصناعة السياسات العقلانية المستندة إلى القواعد قد ولّى.

عصر استقلالية “الاحتياطي الفيدرالي” يقترب من نهايته، والأجدى الاعتياد على ذلك.

المصدر:
وكالة أنباء “بلومبرج”
بقلم:
كلايف كروك، كاتب مقالات رأي لدى “بلومبرج”