
هل يتحقّقُ “السّلامُ” بينَ الشَّعبِ السُّوريِّ وكيانِ الاحتلال؟
د. مُحمَّد الحوراني
أنْ يتغيّرَ نظامٌ في دولةٍ مُعيَّنة لا يعني أنْ تتغيّرَ قناعاتُ الشَّعبِ كُلِّهِ، ولا سيّما ما يتعلّقُ بالقضايا المصيريّة والمبادئ الثابتة لهذا الشَّعب. نعم، قد يكونُ الشّعبُ مخدوعاً ببعض الشِّعارات التي يتبنّاها هذا النظامُ أو ذاك، وقد يكونُ مُغيَّباً عن كثيرٍ من مُمارَساتِ النِّظامِ الحاكمِ، لكنَّ هذا لا يعني أن يقبلَ الشَّعبُ كُلُّهُ بتغيير ثوابتِه وتحويلِ عدُوِّهِ التاريخيِّ إلى صديقٍ، أو حليفٍ مُسالِمٍ يُمكِنُ العيشُ معه. إنَّ هذا لا يُمكِنُ أن يَحدُثَ في عقلِ الشَّعبِ وضميرِهِ وفِكْرِه مهما كانَ مُغيَّباً، ومهما كانَ تفكيرُهُ مُسطَّحاً، فكيفَ إذا كانَ هذا الشعبُ معروفاً بحيويّتِهِ وتَمسُّكِهِ بمبادئِه وثوابتِه عبرَ التاريخِ كما هيَ حالُ الشَّعبِ السُّوري؟!
هيَ مُقدّمةٌ لا بُدَّ منها لتأكيدِ الرَّفْضِ الشّعبيِّ السُّوريِّ المُطلَقِ لأيِّ نوعٍ من أنواعِ العلاقةِ أو “السّلام” معَ المُحتلِّ الصّهيونيّ الذي لا همَّ لهُ سوى تحقيقِ مزيدٍ من التوسُّعِ من أجلِ زيادةِ الرّقعة الجغرافيّة المُحتلّة التي يُسيطِرُ عليها، بغيةَ زيادةِ مساحةِ مملكتِهِ التلموديّةِ، وتحقيقِ مزيدٍ من الأمن والأمانِ للمُرتزقةِ المُستوطِنينَ الذين أتى بهم من أنحاءِ المعمورة كُلِّها للسَّيطرةِ على أرضِنا وقَتْلِ أبنائها الحقيقيّين، تماماً كما فعلَ ويفعلُ في فلسطين.
ولعلَّ وزيرَ الخارجيّة الإسرائيليّ “جدعون ساعر” كانَ الأكثرَ وقاحةً بإعلانِهِ يومَ الاثنين (٣٠- ٦-٢٠٢٥) أنّ لديهم مصلحةً في ضمِّ سورية ولبنان إلى ما وصفَهُ بـ”السَّلامِ والتطبيع”، مُؤكِّداً تَمسُّكَ حُكومتِهِ باحتلالِ الجولان السُّوريّ، بل إنَّ كلامَ الوزير الصهيونيّ كانَ رسالةً إلى الجمهور الإسرائيليِّ وإلى العالم أجمع حولَ ثوابتِ القادَةِ الصَّهاينةِ بشأنِ مُستقبلِ العلاقة بدُوَلِ المنطقة، ولا سيّما سورية.
ولهذا فإنّهُ أكَّد في المؤتمر الصحفيّ معَ نظيرتِه النمساوية “بياتي مينل ريزينغر” أنَّ “إسرائيلَ” مَعْنِيّةٌ بتوسيع دائرة السلام والتطبيع التي نصَّتْ عليها اتّفاقاتُ “أبراهام”، مُعلِناً أنَّ مصلحةَ بلادِهِ تتمثّلُ حاليّاً في “ضَمِّ دُوَلٍ مثل سورية ولبنان، جيراننا، إلى دائرة السلام والتطبيع، معَ الحفاظِ على مصالحِ إسرائيل الأساسيّة والأمنيّة”.
وهذا يعني “أنَّ الجولانَ السُّوريَّ المُحتلَّ سيبقى جُزءاً من إسرائيل مهما حدَث”، قائلاً: “لن نتفاوضَ على مصير الجولان في أيِّ اتّفاقِ سلام”، مُنطلِقاً في هذا من تطبيقِ القوانين “الإسرائيلية” على الجولانِ المُحتلِّ قبلَ أكثر من (40) عاماً، ومُؤكِّداً أنَّ أيَّ اتّفاقِ سلام، سيُبقي الجولانَ جُزءاً من إسرائيل”، دُونَ أن يَذكُرَ رَفْضَ الشعبِ السُّوريِّ في الجولان المُحتلّ المُحاوَلاتِ الصّهيونيّةَ المُتكرّرةَ لـمَحْوِ هُويّتِهِ أو استلابِها على الرَّغْمِ من الإغراءاتِ والإكراهاتِ الصهيونية كُلِّها، ودُونَ أن يتذكّرَ أيضاً إصرارَ الشّعبِ الفلسطينيِّ على استعادَةِ حُقوقِهِ وأرضِهِ على الرَّغْمِ من مُرورِ ما يُقارِبُ مئةَ عامٍ على احتلالِ الصّهاينةِ إيّاها.
لقد حاولَ الكيانُ الصهيونيُّ باعتداءاتِهِ المُتكرّرةِ على سورية بعدَ سُقوطِ نظامِ الأسد خَلْطَ الأوراقِ وضَرْبَ بنيةِ المجتمعِ السُّوريِّ بإثارةِ النَّزعاتِ العِرْقيّةِ والطائفيّة، لكنَّ مُحاولاتِهِ هذه باءتْ بالإخفاقِ بعدَ التَصدِّي الكبير للشَّعبِ السُّوريِّ، ولا سيّما في الجنوب، لهذه المُحاوَلاتِ الدنيئة، تماماً كما حدثَ في الجزائر عَقِبَ مُحاوَلاتِ الاستعمارِ الفرنسيِّ فَرْضَ إرادتِهِ واحتلالِهِ على الشَّعبِ الجزائريِّ الذي واجَهَها بمُقاوَمةٍ شعبيّةٍ صُلْبةٍ أدّتْ في النهاية إلى زوالِ الاحتلالِ الفرنسيِّ واستعادَةِ الشَّعبِ الجزائريِّ أرْضَهُ وحُقوقَهُ بعدَ طَرْدِ المُحتلِّ الفرنسيِّ منها.
وسواءٌ أكانتِ نتيجةُ المُفاوَضاتِ بينَ السُّلُطاتِ في دمشقَ والكيانِ الصهيونيِّ، اتّفاقَ “سلام” أم “مُعاهدةً أمنيّةً” كما أكّدتْ صحيفةُ “يديعوت أحرونوت” الصهيونيّة، التي أعلنتْ أنّ المُعاهدةَ تتعلّقُ بالتَّدخُّلاتِ العسكريّةِ الإسرائيليةِ في سورية بعدَ (8) ديسمبر/كانون الأول الماضي، ولن تشملَ تغييراً في أوضاع الجولان، فإنّ هذا لا يُمكِنُهُ، في حالٍ من الأحوال، أنْ يقضيَ على الحقِّ السُّوريّ باستعادةِ الجولانِ كاملاً إلى السيادةِ السُّوريّة مهما مرَّ من الزمنُ على الاحتلال، ومهما أظْهَرَ الكِيانُ الصهيونيُّ مُمارساتٍ من شأنها أن تُسهِمَ في صَهْيَنَةِ الجولان.
إنّ هذهِ المنطقةَ لا يُمكِنُ أن تكونَ في يومٍ من الأيام إلّا حديقةَ محبّةٍ ووئامٍ لأبناءِ الشَّعبِ السُّوريِّ جميعاً، لا حديقةَ “سلام” بينَ السُّوريّينَ وقاتلِيهمْ من الصهاينة، كما يُحاولُ بعضُهم الترويجَ له في بعضِ وسائل الإعلام الصهيونيّة، ومنها قناة “آي 24”.
صحيحٌ أنّ رئيسَ وُزَراءِ العَدُوِّ الصهيونيِّ أعلنَ سعادَتَهُ الكبيرةَ باحتلالِ أجزاءٍ جديدة من سورية بعدَ سُقوطِ حُكمِ نظامِ البعث فيها، وأنّ هذه المنطقةَ الإستراتيجيّةَ الكاشفةَ لأهمِّ الدُّوَلِ والمواقعِ في المنطقةِ لن يُتَخَلَّى عنها صهيونيّاً، لكنَّ التاريخَ أثبتَ أنّ إرادةَ الشُّعوبِ لا تُقهَرُ، وأنَّ الحقَّ لا يُمكِنُ أن يُصبِحَ باطلاً، وأنَّ الدَّمَ لا يتحوّلُ ماءً مهما حدثَ ويَحدُث، ومِنْ ثَمَّ فإنَّ المطلوبَ من الجميع، خاصّةً المُثقّفينَ والإعلاميّينَ والتربويّينَ وصُنّاع الدّراما، أن يَنْهَضُوا بمسؤوليّاتِهمْ في سبيلِ الدِّفاعِ عن حقِّهمْ وأرضِهم، حتّى تأتيَ اللحظةُ المناسبةُ لاستعادَةِ الحقِّ والكرامةِ والأرض من المُحتلِّ الصهيونيّ.
كاتب سوري
ندرك جيدا أنه لا يستطيع الجميع دفع ثمن تصفح الصحف في الوقت الحالي، ولهذا قررنا إبقاء صحيفتنا الإلكترونية “راي اليوم” مفتوحة للجميع؛ وللاستمرار في القراءة مجانا نتمنى عليكم دعمنا ماليا للاستمرار والمحافظة على استقلاليتنا، وشكرا للجميع
للدعم: