
في وقت صدر القانون رقم 94 لسنة 2024 المعدل على أحكام قانون انشاء الدائرة الإدارية رقم 20 لسنة 1981 برفع النصاب القيمي للمطالبات التي تكون أحكامها نهائية بقيمة 10 آلاف دينار، ولا يجوز استئنافها إذا كانت تقل عن هذه القيمة، فإن المتضرر من التشريع الصادر هي الجهات الحكومية والمؤسسات العامة والأفراد، التي تسبب التشريع في خسارتها العشرات من الأحكام القضائية التي كانت متداولة استئنافاتها أمام محكمة الاستئناف، وصدرت أحكام بعدم قبول استئنافات الحكومة في الدعاوى الإدارية، لأن الاحكام الابتدائية الصادرة من الدوائر الإدارية في المحكمة الكلية صادرة بقيمة تقل عن 10 آلاف دينار، بسبب عدم وجود أحكام انتقالية في القانون تضمن مصير الدعاوى المقامة قبل صدوره، وتداولت أمام محكمة الاستئناف وتم العمل بالقانون قبل صدور تلك الأحكام من «الاستئناف»، التي قضت بعدم جواز الاستئنافات لقلّة النصاب، بسبب صدور القانون الجديد ونشره بالجريدة الرسمية.
كما تسبب التشريع الصادر في سقوط مطالبات الحكومة بالقضايا التي تقيمها إذا كانت أحكامها أمام محاكم أول درجة برفض أو بقيمة أقل من مطالبتها ولم تتجاوز النصاب القيمي الجديد بقيمة 10 آلاف دينار، وعدم جواز استئنافها، مما تسبب في ضياع حقوقها ومطالباتها.
كما يتعارض التشريع الجديد مع أحكام قانون المرافعات المدنية والتجارية، والتي جعلت النصاب القيمي للقضايا الجزئية، ولا يجوز استئنافها بحدود 5 آلاف، في حين رفع المشرع في القانون رقم 94/ 2024 النصاب القيمي للقضايا الإدارية الجزئية بقيمة 10 آلاف، على الرغم من أن المشرّع عندما أصدر التعديل، وتم العمل به من شهر سبتمبر 2024، كان يرى أهميته على موضوع جدية التقاضي وعرضها أمام محكمة الاستئناف، بينما وهو في سبيل تعديل قيمة النصاب القيمي أمام محكمة التمييز في قانون المرافعات رفع القيمة إلى 30 ألفاً، ولم يتعرّض للنصاب القيمي المقرر بقيمة 5 آلاف في القضايا التجارية والمدنية، مما يعني أن المشرّع في تعديله الأخير خلال شهر مارس الماضي، لم يرغب في المساس بالنصاب القيمي للقضايا المدنية والتجارية وتركه بقيمة 5 آلاف، بينما تعرّض له في شهر سبتمبر 2024، عندما عدل قانون إنشاء الدائرة الإدارية، وهو أمر غير مبرر من قِبل المشرع، ويتعارض مع فكرة تنظيم النصاب القيمي التي تم رفعها بالقضايا الإدارية الى 10 آلاف، مما تسبب في حرمان المتقاضين من الاستئناف للأحكام التي تقل عن 10 آلاف، بينما يسمح للمتقاضين في القضايا المدنية والتجارية بالطعن على الأحكام أمام الاستئناف في المطالبات التي تزيد على 5 آلاف، وهو ما قد يشوب التشريع بعدم الدستورية، لإخلاله بمركز المتقاضين من تنظيم حق التقاضي.
الحكومة المتضرر الأكبر
بدورها، أكدت مصادر في إدارة الفتوى والتشريع لـ «الجريدة» أن «الفتوى» هي محامي الدولة والحكومة، وأن الأكثر تضرراً من تعديل قانون إنشاء الدائرة الإدارية هي الحكومة، لأن أكثر مطالبات الحكومة المالية تكون في حدود 10 آلاف، وحرمانها من استئناف الأحكام يعني حرمانها من استحقاقها وحقوقها.
وأكدت المصادر ضرورة مراجعة التعديل الصادر في القانون رقم 94/ 2024 بما يكفل حق التقاضي للأفراد والحكومة على حد سواء في حقهم باللجوء للقضاء في الدعاوى التجارية والمدنية أو في القضايا الإدارية، الذي تسبب التشريع الصادر في رفع النصاب القيمي في القضايا الإدارية الى إهدار حقهم في الطعن على الأحكام، حتى لو كانت تلك الأحكام الابتدائية يشوبها عيوب أو ملاحظات قانونية، فلا يمكن للمحاكم الأعلى مراقبتها، بسبب التشريع الذي جاء لتعديل أحكام الدائرة الإدارية بشأن النصاب القيمي، الذي يلزم المحاكم الإدارية بعدم القبول للاستئنافات لقلّة النصاب وعدم تناول موضوع الدعوى.
حق مكفول
بدوره، يقول الخبير الدستوري، أستاذ القانون العــــام فــــــي كــــليــة الحـــــــقــــــــــوق، د. محمد الفيلي، لـ «الجريدة» إن الحق في التقاضي لكل الأفراد مكفول دستورياً، وهو حق قابل للتنظيم، على ألا يخل التنظيم بأصل الحق، لأنّ دور المشرّع يقتصر على التنظيم.
وضمن أوجه التنظيم، أن تحدد درجات التقاضي، خصوصاً أن المحكمة الدستورية قررت في أحكام سابقة أن تعدُّد درجات التقاضي بذاته ليس حقاً دستورياً، بل المكفول دستورياً حق كل فرد في عرض ادعائه على محكمة تتوافر فيها صفات المحكمة، والآن في إطار الحق بالتنظيم يجب ألّا نغفل أن الحق في التنظيم لا يحده فقط أصل الحق في التقاضي، ولكن يحده أيضاً المبادئ الدستورية الأخرى، ومنها مبدأ المساواة في حال تماثل المركز القانوني، وأن يكون التمييز تحكُّميا، وإذا أتينا في هذا الموضوع إلى المفردات، فسوف نجد أمامنا اليوم وضعاً تشريعياً عليه عدد من الملاحظات، أولاها ملاحظة ذات طابع دستوري، بأن المشرّع جعل الحكم أول درجة نهائياً، إذا كان نصاب الدعوى محدد القيمة، وقيمته أقل من 10 آلاف إذا بُني التنظيم التشريعي على أساس أن القضاء لا يفصل في منازعات قدر المشرع إذا كانت قيمتها أقل من 10 آلاف، فيكون التقاضي على درجة واحدة، وهو في الوقت ذاته جعل المنازعات الأخرى، كالمدنية والتجارية النصاب القيمي فيها بـ 5 آلاف دينار.
ويضيف الفيلي: ونلاحظ أن المركز القانوني محل الاعتبار في التنظيم هو قيمة المطالبة، ونحن أمام ذات القضاء، فوجود دائرة إدارية هي جزء من القضاء، وتوزيع العمل داخل الدوائر مسألة منوطة بالقضاء، كأنما جعل المشرع المنازعة المدنية في وضع مختلف عن المنازعة الإدارية، مع أن المنوط في التنظيم واحد، والفكرة ألّا يفرق القضاء بنظر استئنافات يقدر المشرع بأن القيمة فيها لا تبرّر ذلك، ولكن في المنازعة المدنية القيمة 5 آلاف دينار، وفي المنازعة الإدارية 10 آلاف، وفي الحالتين نحن أمام معيار للتنظيم أساسه فيه المطالبة، وإذا كان هناك تماثل في عناصر المركز القانوني للنزاع، لكنّ هناك تباينا في التنظيم، وهذا على الأرجح يخلّ بفكرة مبدأ المساواة.
ويتابع الفيلي أن مبدأ المساواة يُعدّ مبدأ دستورياً يلزم المشرع العادي بأن ينصاع له، وأن يأخذ به، وعدم الأخذ به يعرّض مثل هذا التشريع إلى عدم دستوريته.
وملاحظات أخرى ذات طابع لنقُل إنها ملاءمات تشريعية، وهي أن التشريع أتى، وهو تشريع إجرائي بأن يتم تطبيقه بأثر فوري دون التعامل مع الفترة الانتقالية، فهناك منازعات مسجلة أمام دوائر الاستئناف، والقضاء سوف يطبّق التشريع الأحدث، حتي يصدر الحكم، لكن المتقاضين رتّبوا أوضاعهم على أساس القاعدة الأقدم، لأنها هي الأساس القانوني، والتي كانت موجودة وقت إيداع الاستئنافات، وهذا يؤدي في الغالب إلى الإحساس بعدم الوضوح، وعدم الوضوح هو أحد عناصر الإخلال بالأمن القانوني، ويمكن أيضاً الإشارة إلى أن مبلغ 5 أو 10 آلاف يعبّر عن الأخذ بمعيار اقتصادي، وكان يحسُن بالمشرع ابتداء أن ينسّق بتشريعاته، كي لا ندخل في مثل هذا التباين في النهاية، وهو ما يخلّ بمبدأ المساواة.