عمرو منير دهب يكتب: شاعر فنون الشعر

عمرو منير دهب يكتب: شاعر فنون الشعر

دار البشاير مجلسنا ** وليل زفافك مؤنسنا

إن شا الله تفرح يا عريسنا ** وإن شا الله دايماً نفرحبك

**

على السعادة وعلى طيرها ** ادخل على الدنيا وخيرها

فرحة تشوف في ابنك غيرها ** وتعيش لأهلك ولصحبك

**

الشمس طالعة في التُلي ** وردة وعليها توب فُلَّي

ملحة في عين اللي ما يصلي ** ولا يقولشي تتهنَّى

**

حرّة تصونك وتصونها ** وتقوم بدارك وشؤونها

وتشوف عيونك وعيونها ** دخلة ولادك والحنّة

**

دنيا جميلة قوم خدها ** ستك وبالمعروف سيدها

قوم يا عريسنا بوس إيدها ** وصلِّ واطلب واتمنى

**

لا يذكر حسين شوقي، في كتابه “أبي شوقي”، تلك القصيدة بوصفها دليلاً على موهبة أبيه الفريدة التي غطّت كلّ أغراض الشعر الغنائي تقريباً، وفيها الشعر بالعامية المصرية، وإنما يشير إليها عابراً وهو يعرض في ذكرياته لـ “أول حفلة ساهرة كبيرة بكرمة ابن هانئ الجديدة بالجيزة” بمناسبة زواج أخيه عليّ من بنت خالته: “وقد تبارى الشعراء الحاضرون في إلقاء القصائد التي تناسب المقام، فكانت الكرمة في تلك الليلة أشبه بسوق عكاظ! أما أبي، فقد وضع قطعة خصيصاً لهذا الحادث السعيد، وغنّاها الأستاذ محمد عبد الوهاب في السهرة، كما سُجلت بعد ذلك في الأسطوانات”.

نرشح لك : عمرو منير دهب يكتب: ربّة الشعر الشوقيّة

“القطعة” – بحسب تعبير حسين شوقي – جميلة، وإن يكن من الصعب الحكم في ضوئها وأضواء غيرها من شعر الأمير بالعامية المصرية على مهاراته وإنجازه في هذه الناحية من الفن الشعري الغنائي؛ وهو ابتداءً لم يُوْلِ ذلك الفن على الأرجح اهتماماً يُذكر سوى على سبيل إثبات أن موهبته ومهارته تستطيعان أن تخوضا غماره؛ أمّا بخصوص مكانته بين شعراء العامية المصرية فهو في الغالب غير معدود فيهم أصلاً، ليس بسبب تدنّى أشعاره بالعامية وإنما انصرافاً إلى مجده منقطع النظير الذي شيّده على أركان شعره الغنائي الفصيح.

ما المانع من أن يكون الشاعر بارعاً في كل أغراض/فنون الشعر؟ السؤال استنكاري بطبيعة المقام، وإجابته من ثمّ هي “لا” من الوجهة النظرية الصرفة، وإن تكن الوجهة العملية تضع عراقيل راسخة وشامخة أمام تجاوز أيٍّ من الشعراء هذا التحدّي العظيم. أما بالنسبة لتقديرنا في مقام تقييم إنجاز أحمد شوقي الشعري، فإن الأمير لم يبرع في كل أغراض/فنون الشعر فحسب وإنما تجاوز شعراء العربية فيها جميعاً؛ وهو إنْ لم يكن قد تجاوز كلَّ شاعر فيما اشتهر فيه ذلك الشاعر من الأغراض فعلى الأقل تجاوز كلَّ شاعر في المباراة الفنية في الأغراض مجتمعة.

لم يكن شوقي منفعلاً وهو يطمح عامداً إلى تجاوز شعراء العربية العظام، سواءٌ عبر معارضاته المباشرة لأشهر قصائدهم أو عبر انصرافه إلى التفوّق في السمات الفنية التي وسمت كل عظيم من أولئك الشعراء الكبار؛ لم يكن شوقي منفعلاً في صنيعه ذاك قدرَ ما كان مدركاً بدقة مكامنَ عبقريّته الشعرية من حيث أصالة وفرادة موهبته ومن حيث مهارته/قدرته على قبس ومضات تلك الموهبة الفريدة من عُليا سماوات الإلهام وإشاعتها بعد المعالجة ببراعة في الواقع المحتدم بالمنافسات الشرسة والخصومات الفاجرة منذ فجر التاريخ الأدبي عربيّاً وفي كل مكان.

لم ينفجر شوقي بغرور فاحش كغيره من الشعراء على نحو ما فعل أثيره المتنبي على سبيل المثال، لكنه صرّح مراراً بأنه الأفضل؛ فقد شبّه نفسه بأبي تمام في معرض المباهاة بما يمكن أخذه على أنه اعتداد عميق بالذات لا غضاضة فيه من لدن شاعر عظيم:

وَكَأَنَّهُ في الفَتحِ عَمّورِيَّةٌ ** وَكَأَنَّني فيهِ أَبو تَمّامِ

وقال في السياق نفسه، وإنْ بقدر أوضح من الجرأة على صعيد مجاراة البحتري:

إن الذي قد ردّها وأعادها ** في بُرْدتَيكِ أعاد فيَّ البحتري

وأنشد بما لا يتطرّق له استنكار فنّي على الأرجح في شأن المقارنة مع حسّان بن ثابت، والغالب أنه لم يكن يقصد من حسّان شاعريته المطلقة قدرَ ما كان يقصد مقام ممدوح حسّان المقدّس الذي يجلّه شوقي بصفة خاصة إجلالاً لا يخفى على قارئ لشعره:

وَمازِلتُ حَسّانَ المَقامِ وَلَم تَزَل ** تَليني وَتَسري مِنكَ لي النَفَحاتُ

غير أنه صرّح عياناً جهاراً بتفوّقه على جرير:

أنا إنْ عجزتُ فإنّ في ** بُرديّ أشعرَ من جرير

بل تعدّى على مثله الشعري الأعلى ليس بإعلان أفضليته فحسب وإنما بلمز ذلك المثل الأعلى لمزاً مباشراً، وأرجو أن يجوز التعبير:

وَلي دُرَرُ الأَخلاقِ في المَدحِ وَالهَوى ** وَلِلمُتَنَبّي دُرَّةٌ وَحَصاةُ

كان الأمير إذن، وقبل أن يُتوّج بذلك اللقب الذي لا يعني لنا بصفة عامة سوى إقرار عام بسموّ شاعريّته، كان يدرك مهمّته التي نذر فنّه ونفسه من أجلها: التربّع على ذروة الشعر العربي الغنائي على مرّ العصور.

في “حياة شوقي”، يقول أحمد محفوظ: “شوقي كان ينشد أن يكون شاعر حكمة من الطراز الأول، ولكنه قصر في لحوق أبي الطيب المتنبي الذي كان يلهث وراءه ليلحق غباره، فقد كان شاعره ورائده وأستاذه. كان مفتوناً بحكمته، وقد حاول بتجاربه الفنية أن يجاريه ولكنه لم يقدر له ذلك. كانت له أبيات حكيمة ولكنها لم تصل إلى تلك الحكمة الكاملة القوية في البيت الواحد لأبي الطيب. تلك التي تهز قارئها هزاً عنيفاً وترسله وهو في دوار”. يعرض بعدها محفوظ لأمثلة من حِكَم المتنبي التي يرى أن شوقي لم يستطع مجاراتها، ثم يقول: “فشوقي لم يتغلغل في أعماق الأحداث ولا في أعماق النفس البشرية كما تغلغل فيها المتنبي بإلهام الشاعر العبقري”.

الحق – من وجهة نظر شخصية بطبيعة الحال – أن التغلغل في أعماق النفس البشرية كان لعبة شوقي التي برع فيها عبر كل أغراضه الشعرية: المدح، المناسبات، الرثاء، الغزل، قصص الأطفال، التاريخ، السياسة، الوطنية، الهجاء، السخرية، الوصف، وحتى شعره المسرحي؛ وهو في ذلك التغلغل تجاوز المتنبي الذي تقف في صفّه – على صعيد هذا التحدّي – ألفيّة كاملة من ترسيخ التعاطف الجامح لدى عشاق الشعر في تاريخ العرب الأدبي، وتلك الألفية ليست هيّنة بحال من حيث تأثيرها على إسباغ الجلال المهيب على حِكَم المتنبي الراقية والفريدة بطبيعة الحال، ومن قبلُ على شخصية المتنبي منقطعة النظير في وجدان العرب الشعري.

رغم سعيي الواضح إلى إحالة دواعي رأي أحمد محفوظ ذاك إلى مؤثرات غير فنّية، فإن اختلاف الرأي وارد ومفهوم على كل حال مهما تكن المبرّرات التي يسوقها كل طرف لإثبات دعاواه وما يدفع به من حجج في ترجيح هذا الشاعر أو ذاك. ولكن من الواضح أن بضعة عوامل مهمّة ظلّت وراء خشية معظم كبار النقّاد من إطلاق الأحكام، ليس في شأن أفضلية شوقي شخصياً وإنما بالنسبة إلى كل الشعراء العظام وفيهم المتنبي ذاته.

ذلك التحفّظ – فيما يخص شوقي تحديداً – يرِد مراراً عند طه حسين وزكي مبارك وشوقي ضيف على سبيل المثال لا الحصر بطبيعة الحال، ولدى كثيرين غير أولئك حتى من أخلص عشاق الأمير المنتبهين بدقة إلى مكامن عبقريّته الفنيّة وإنجازه الأدبي الفريد المتحقق بالفعل؛ فعبارات التحفظ تحيط بأحكام الأدباء العظام والنقاد الكبار في شوقي، عبارات من قبيل: “من أعظم الشعراء”، بل “من أعظم شعراء العربية في العصر الحديث” (ما يعني أن إطلاق الحكم متحفَّظ عليه حتى قياساً إلى زملائه المعاصرين)، “لو فعل شوقي كذا لكان من أفضل شعراء العربية”، إلى غير ذلك من القيود التي تكبّل أولئك الأدباء والنقاد العظام فتحول بينهم وبين الأحكام صريحة الإطلاق في شأن الأمير وشعره، إمّا بداعي الخوف من إغضاب الشعراء المنافسين، وإمّا درءاً لاستفزاز النقاد أصحاب الآراء المخالفة، وإمّا تحوّطاً من الوقوع في خطأ نقدي محتمل.

مهما يكن، برع شوقي في كل أغراض الشعر الغنائي وفنونه وابتدع جديداً فريداً في كلٍّ منها، بل افترع فنوناً شعرية لم يسبقه إليها الشعراء العرب بحال، فأدرك في كل تلك الأغراض والفنون أعلى الطبقات على النطاق الغنائي العربي لا مراء، وذلك بصرف البصر عن تحدّيات السؤال المربك عمّن يستحق تحديداً لقب الأفضل بين شعراء العربية على الإطلاق.

للتواصل مع الكاتب عبر الإيميل التالي: ([email protected])