
ماذا لو لم تكن هناك إسرائيل؟
د. لينا الطبال
استيقظ العربي ذات صباح وقلبه ينبض، لا طنين طائرات. غريب جدا. نظر من النافذة… لم يرَ إسرائيل تبا! أين ذهبت إسرائيل؟
ولم يرَ الجدار يطوق الضفة مثل الافعي، ولا المعابر تنهش غزة بأسنان الحديد: “قف هنا، اخلع الحذاء، افتح الحقيبة، انتظر هناك”، الجنود تبخروا، كأن أحدهم ضغط على زر “حذف دائم”.
أراد العربي أن يفرح… لكنه لم يعرف كيف. فالمشاعر التي لا تمارس تموت، والفرح عضلة لم يُتح له فرصة التمرين عليها واستعمالها كثيرا… في البداية، ظن أن الكهرباء عادت، ثم ظن أن الانترنت قد وصل أخيرا بسرعة الضوء، ضحك: هذا زمن تقاس فيه النعمة بسرعة التصفح والسكرولينغ. فقط عندها… أدرك ببطء، وربما بشك أن إسرائيل قد اختفت.
تخيل للحظة واحدة فقط، أن تستيقظ دون إسرائيل. أن ترى السماء، حتى فوق غزة، زرقاء.
ستستيقظ أمريكا كل صباح مذعورة ايضا… من الذي سندافع عنه اليوم؟ من الذي سيموت دفاعا عن مصالحنا؟ لكن طالما ان إسرائيل موجودة، فإن أمريكا لن تضطر إلى أن تواجه نفسها أبدا:
لن تعتذر عن فييتنام ولا عن العراق، لن تحاسب على هيروشيما، ولن تراجع عقيدتها القائلة بأن القوة تصنع الحقيقة.
وأوروبا ستضطر أخيرا إلى مواجهة تاريخها الاستعماري… لن تستطيع ان تدين الآخر… ستجد نفسها، في غياب إسرائيل، مجردة من ذريعة المعاداة للسامية التي تلصقها عشوائيا.
ماذا لو لم تكن هناك إسرائيل؟ هذا سؤال محرم وخطير لكنه السؤال المفضل لدى الجميع… اليساريين الحالمين، والإسلاميين الغاضبين، والليبراليين الفارغين… كأننا، فجأة، اذا حذفنا إسرائيل من الخريطة ينهض العالم العربي كالمسيح… كالمهدي المنتظر:
يحرث الأرض،
يُنتج المعرفة،
يُنظّم السير،
يبتكر فلسفة جديدة،
ويبتكر روبوتات الذكاء الاصطناعي.
وكأن السجون والمعتقلات ستختفي ايضا.
تسألني مجددا ماذا لو لم تكن هناك إسرائيل؟ هل هو سؤال غبي؟ -لا. هو سؤال جميل… لأنه يكشف عن الغباء.
-قبل ان اجيبك اشعر برغبة فورية في الضحك، لأن إجاباتي ستأتيك كوميدية وقد تبكي.
تتخيل انه لو لم توجد إسرائيل لكنا سنأخذ القطار من بيروت إلى حيفا… جميل،
وننزل في عكا لنأكل السمك مع الصيادين… انت رومانسي،
ثم نغفو تحت شجرة برتقال في يافا…اوه، كم أنت حالم!
وان بغداد كانت سترسل رواياتها ومخطوطاتها إلى دمشق، تتخيل أن القاهرة كانت سترسل شعراءها إلى رام الله، وأن غزة، بدلا من أن تحفظ أسماء الشهداء، كانت ستفتح مدرسة لتعليم الرسم التجريدي. وأن عمان ستحتضن سواح شهر العسل.
كل هذا رائع فعلا، لكن لا علاقة له بإسرائيل… لانه، دعني أقولها بلطف، نحن نُبدع في الحنين لما لم نكُنه أصلا.
صحيح لو لم تكن هناك إسرائيل، لكان القطار انطلق من دمشق الى بيروت إلى حيفا، ومن طرابلس إلى القدس، ومن القدس إلى بغداد … خط ساحر من الحلم… لكن … العربة كانت ستتحول الى ساحة نقاش حاد، لاهوتي-طائفي-انفعالي- غوغائي-دموي-وجودي. كان الركاب سيتشاجرون: سُنة أو شيعة؟ انا سنى معتدل ؟؟ (تعبير جديد الان) معتدل حسب مقياس من؟ علويون. يا الهي… مسيحيون؟؟؟ اخوان؟ انا قومي.. انا اممي؟ كفار… كلكم كفار… لا، ارجوك. وهل يجوز للمرأة أن تركب الدرجة الأولى دون حجاب؟
يا صديقي … أجل، كم كنا سنكون بخير لو لم تكن هناك إسرائيل، لكانت المسافة بين العواصم أقصر، لكن المسافة بيننا كانت ستظل شاسعة !
لو لم تكن هناك اسرائيل، لربما لم تقف أقدام الجنود على صدور الأطفال، لربما اصبح محمد الدرة طبيب قلب و فارس عودة مدرب طيران و لربما محمد ابن زكريا الزبيدي اصبح مهندس يشرح حول قوانين الجاذبية… ربما كان أطفال غزة الآن يلعبون. نعم، خمسة عشر ألف منهم… لكن هل تعرف كيف تتعامل مع الابطال حين لا يموتون؟
النكبة ليست فقط ما فعلوه بنا، انما ما فعلناه نحن، بعدها، بأنفسنا.
لو لم تكن هناك إسرائيل، لكان لنا ربما برلمان عربي واحد. لربما حملنا جواز سفر واحد… بلغة واحدة….
تقول ان إسرائيل هي مستعمرة بتكنولوجيا عالية وهي يد العولمة القاتلة. لكن مهلا… لو لم تكن موجودة من كنا سنكرهه بدل أنفسنا؟ من كنا سنحمله عبئ خراب الأمة؟ من كنا سنستدعيه في خطب الجمعة؟ كيف كنا سنُقنع أنفسنا أن الهزيمة هي مسؤولية وليست مؤامرة؟
لو لم تكن هناك إسرائيل، لكنا اخترعنها. نحن نحتاج إلى عدو خارجي لأنه يحمينا من انفسنا…لاننا اشخاص نرجسيون نخاف من نفسنا ولا نهرب من اخطائنا…. نحن أعداء انفسنا الداخليون نعرف كل شيء… نعرف كيف تجري الانتخابات في الظلام… نعرف أن وزراء الثقافة لدينا لا يقرأون… وان سياسيونا يكذبون وهم يتباكون على القدس… نعرف ان واقعنا العربي رث وقذر…
وان أنظمتنا مفلسة أخلاقيا، وان نُخبنا تعقد مؤتمرات تناقش فيها ضرورة عقد مؤتمرات أخرى…الأنظمة العربية تشبه رجل يركب دراجة ثابتة، يتعرق ويتعب، يتوهم التقدم… كلما اشتد التعب، ظن أنه اقترب من القدس. هو يعرف والجميع يعرف اصلا أن الأرض لا تتحرك، وأن الطريق الذي يسلكه… مُصمم حتى يبقيه حيث هو.
انظمتنا تجلس في مؤتمرات برعاية الأمم المتحدة لمناقشة كيف تكون المقاومة بدون مقاومة، مقابل معارضة منفصمة عن الواقع، مهلهلة تقبض بالدولار وتدير حوارات في مطاعم وفي “سناكات” المهجر…
لو لم تكن هناك إسرائيل، لما تغيرت الأشياء كثيرا، يا صديقي. كان الحاكم سيظل يجلدك، والمخبر يطرق بابك في الثالثة فجرا، والأديب يكتب قصيدة عن حبّه للقائد، والشعب يهز برأسه بعد صلاة الجمعة ثم يعود إلى صف الخبز والعار.
إسرائيل لعنة نزلت علينا من العقل الغربي… لكنها لعنتنا.
إسرائيل موجودة لأن ضعفنا طويل النفس…وصبرنا طويل النفس أيضا وأننا نخلط بين الوهم والحقيقة…
لكن إسرائيل موجودة، وبصحة جيدة… لأن هذه الأنظمة العربية باعت فلسطين وباعتنا معها، تحاربنا وتحارب المقاومة.
إسرائيل يا صديقي لم تمنع الديمقراطية في مصر، ولا حرمت الكتابة في المغرب، ولا قطعت الإنترنت في السودان، ولا فتحت السجون في سوريا… لقد شكلت انظمتنا لها فريق دعم ممتاز ومدرب… ووفرت لها الغطاء… بينما نحن كنا في مكان آخر: نكتب القصائد، نؤلف الأغاني، نعقد المؤتمرات العقيمة في فنادق خمس نجوم، ثم نعود لنصرخ: النصر آت!
فلا تسألني، ارجوك، لا تسألني مجددا ماذا لو لم تكن هناك إسرائيل؟، كف عن هذا السؤال الممل الآن…
السؤال الحقيقي ليس عن إسرائيل، بل عنا.
اسأل ماذا لو لم نكن نحن بهذا الشكل؟ لماذا لا يزال وجودها ممكنا؟ ولماذا لا نزال نحن، كل يوم، نمنحها الشرعية… بصمتنا،
بانقساماتنا،
بأحلامنا المؤجلة.
لا تكرر السؤال، كأنك طفل يسأل أين تذهب الشمس كل مساء.
اسألني شيء حقيقي اكثر ايلاما وصدقا… مثلا: لماذا نستيقظ كل صباح على هزيمة جديدة؟، ونتابع اليوم كالمعتاد؟، نبتسم لبائع القهوة ونحيي زملاء العمل؟ ثم نشاهد الجزيرة، نفس القناة… نفس المحلل… ونتحسر… ونتلفظ بنفس الكلمة البذيئة ونُغلق التلفاز، قد نتناول مسكن ونستلقي على نفس السرير، نحلم نفس الحلم، ونستيقظ في منتصف الليل، نفتح التلفون للبحث عن كارثة جديدة تبرر هذا الارق… نستيقظ في الصباح ونقول نفس الكلمة: لم نستطع النوم جيدا هذه الليلة …
صدقني هذا القطار من بيروت الى حيفا الذي يؤرقك سنركبه ذات يوم وسنصل.
ربما متعبين،
متأخرين، لكننا سنصل…
فقط، في انتظار ذلك اليوم، أجبني على سؤالي، الجارح، الوقح، المؤلم:
لماذا تبدو إسرائيل ضرورية… لمن يدعي أنه ضحيتها؟ لماذا يحتاج هذا العالم إلى إسرائيل، أكثر مما يحتاجها الإسرائيليون أنفسهم؟
وارجوك أجب بصدق…
أجبني فقط… دونما خطابات حماسية، دونما الحديث عن نفسك ودونما أن تطلب القهوة قبل الإجابة.
باحثة واكاديمية – باريس
ندرك جيدا أنه لا يستطيع الجميع دفع ثمن تصفح الصحف في الوقت الحالي، ولهذا قررنا إبقاء صحيفتنا الإلكترونية “راي اليوم” مفتوحة للجميع؛ وللاستمرار في القراءة مجانا نتمنى عليكم دعمنا ماليا للاستمرار والمحافظة على استقلاليتنا، وشكرا للجميع
للدعم: