
حُستي محمد: لوحة لحظة الشاي
حُستي محمد
تثير لوحة لحظة الشاي الموقعة تشكيليا بأسلوب واضح الانتماء للفنان مصطفى بنعالية الاستاذ والفنان المبدع الذي جعل من لوحة لحظة الشاي مرآة بصرية تكشف عن عناصر تشخيصية وتشكيليّة عميقة تُحيل على عدد من الخصائص الجمالية والثقافية المغربية التي تميز أعماله التشكيلية ، ومن خلال بنيتها المفعمة بالتناغم الحسي الكبير يمكن لنا أن نقرأها على النحو التالي:
تحليل تشكيلي وجمالي لخاصية أعمال الفنان التشكيلي المغربي مصطفى بنعالية:
الموضوع والهوية البصرية:
لوحة لحظة الشاي تمثل مشهداً اجتماعيا وثقافيا نمارسه كمغاربة يومياً ، مألوفاً من الذاكرة الجماعية المغربية: رجل مسن بهندامه التقليدي يسكب الشاي بأسلوب طقسي عميق .
وهاهنا التيمة ليست لا تقتصر فقط على احتفاءً بعادة اجتماعية تتكرر يوميا، بل هو خطاب بصري عميق في دلاته الرمزية و استدعاء صريح للهُوية والحميمية الثقافية المغربية ، وذلك عبر رموز وتمثلات بصرية مغربية أصيلة مثل البراد، الكؤوس، الطاولة المستديرة، الغلاية النحاسية ، وحاملة السكر والنعناع . ما يمثل بكل بساطة ذلك الوفاء الكبير الذي يكنه الفنان التشكيلي بنعالية للبيئة المحلية ولموروثه الثقافي ، ويبرز حرصه على تحويل العادي اليومي إلى استثنائي عبر العدسة والفرشاة التشكيلية.
التقنية والأسلوب:
انتصار و استخدام الفنان بنعالية للون البنفسجي في الخلفية السائدة وللأزرق في الثوب يظهر جرأة لونية قصوى في التجاور الصوفي والهادئ للألوان الباردة والقدرة في تمكين بالكتل الضوئية والظل من بناء تناغم تشكيلي له مرجع في تاريخ الفن العالمي ، وهو ما يُقربه من تيارات ما بعد الانطباعية والتعبيرية الحديثة.
الألوان الساطعة والصريحة تسائل دائرة الألوان في عمقها الدلالي وتخلق تباينًا بصريًا عاليًا في التكامل ، مما يمنح العمل التشكيلي حيوية ديناميكية تجعلك تتحسس رائحة الشاي والنعناع بمقلة أعينك .
ضربات الفرشاة واضحة وحرة وهادئة عكس الغلاية النحاسية الثائرة تحت وطأة النار ، ما يعكس حضورًا للّمسات اليدوية والتعبير المباشر الذي قاده الفنان التشكيلي بنعالية ، وهو في ذلك حريص جدا على أن ينأى عن الواقعية التصويرية الدقيقة او المفرطة ، لصالح تعبير تشكيلي وجداني حر.
البناء التركيبي:
تكوين لوحة لحظة الشاي يوازن باحتفالية موضوعية بين الخطوط العمودية والأفقية والمنحنيات، والمساحات والكتل والدرجات الضوئية للبنية التشكيلية للوحة كقطة جمالية ، بذلك نلاحظ وجود استقرارًا بصري في توزيع العناصر التشكيلية في الفضاء.
تموضع البراد في اليد اليمنى، وسكب الشاي نحو نقطة ارتكاز في وسط اللوحة، يمنح المشهد حركة داخلية تستدرج العين بسلاسة صوفية وفي تناغم مع الحركة وصوت الشاي وبخاره ورائحته التي تجوب الروح بزبد يشهد بحرارة الشاي .
عنصر الغلاية النحاسية البخارية على اليمين يضفي بُعدًا حسيًا (البخار، الحرارة) ما يُغني اللوحة بصريًا في ديناميتها المتجذرة في تاريخ الكرم لشعوب شمال إفريقيا، ويكسر بذلك جموديتها الأنطولوجية .
لوحة لحظة الشاي
البعد السيميائي والثقافي لرموز الذاكرة في لوحة “لحظة شاي”
تتجلى في لوحة لحظة شاي للفنان مصطفى بنعالية كثافة سيميائية عالية تستند إلى عناصر بسيطة ظاهريًا، لكنها مشبعة بدلالات ثقافية عميقة. فـ”البراد المغربي” هو بمثابة هوية بصرية للمغاربة و ليس مجرد أداة لتقديم وصب الشاي، ويحمل رمزا لأصل الكرم والضيافة، ويُستدعى بصريًا كعلامة وفاتحة سلمية على الترحيب، اللقاء، والمشاركة. أما كؤوس الشاي الزجاجية، فهي تقليد راسخ يختزن عوالم من التفاعل الاجتماعي، حيث يحتل الشاي مكانة رمزية في العلاقات الاجتماعية اليومية المغربية، وخصوصًا في الفضاءات العائلية والحميمية. ومن جهة أخرى، يُمثل اللباس التقليدي الذي يرتديه الرجل (جلباب وعمامة بيضاء) تعبيرًا عن الهوية المحلية الأصيلة، ويعيد استحضار صور الأجيال السابقة التي كانت تمارس طقوس الشاي بنفس القدسية والحرارة. إن هذه الرموز، في علاقتها بالفضاء اللوني الغني الذي يستخدمه الفنان بنعالية ، تتحول إلى توثيق بصري للذاكرة الشعبية المغربية ، وتُساهم في إنتاج خطاب جمالي معرفي، يمنح للمشاهد – سواء المحلي أو الأجنبي– نافذة بصرية صادقة على مغرب داخلي، هادئ، وإنساني. إنها لوحة لمنجز تشكيلي، وشهادة تشكيلية على تماسك الهوية الثقافية المغربية، وتعبير عن كيف يمكن للفن أن يصبح أرشيفًا حسيًا للزمن وللمكان .
مكانة مصطفى بنعالية في المشهد التشكيلي المغربي والعالمي:
محليًا:
الفنان التشكيلي مصطفى بنعالية يمثل جيل الفنانين الملتصقين بالأرض والهوية الشعبية المغربية العميقة ، ويساهم من خلال لوحاته وكتبه التربوية والقصصية في ترسيخ الفن كوسيلة تعليم وتنشئة اجتماعية صادقة .
أعماله التشكيلية توازي نشاطه البيداغوجي، ما يجعل منه فنانًا مثقفًا ومربيًا بصريًا في آن، وهو ما يؤهله لتأطير أجيال ناشئة قادرة على قراءة الفن كثقافة.
عالميًا:
عبر مشاركته في القصص المصورة( la bande dessinée) باللغة الفرنسية، وبالتعاون مع كتاب عالميين، كـ ( Daniel Couturier )، يصبح الفنان صوتًا بصريًا لمغرب متعدد في أبعاده : تراثي، حديث، عالمي.أعماله قادرة على مخاطبة الذوق العالمي الباحث عن الأصالة والفرادة، خاصة في زمن يسعى فيه الفن الغربي لاستعادة الروح المحلية والبدائية بوصفها تعبيرًا عن النقاء.
خلاصة:
يمثل الفنان مصطفى بنعالية نموذجًا متفردًا في المشهد التشكيلي المغربي المعاصر، حيث يجمع بانسجام دقيق بين التوثيق البصري للذاكرة الشعبية والاحتفال الجمالي بالهوية الثقافية الأصيلة. فهو لا يشتغل على المألوف كمعطى سطحي، بل يعيد تشكيله بصريًا عبر لغة تشكيلية تعبيرية تتسم بالحرارة، الحيوية، والانزياح الفني الواعي عن التقريرية.
تغوص أعماله في صلب الأنثروبولوجيا البصرية للمجتمع المغربي، فتعيد الاعتبار لتفاصيل تبدو هامشية في الحياة اليومية –كطقوس إعداد الشاي، اللباس التقليدي، المشاهد القروية، والاحتكاك الإنساني– لكنها محمّلة بدلالات ثقافية ورمزية كبرى، ما يجعل من لوحاته أرشيفًا بصريًا لهوية جماعية متعددة الطبقات.على المستوى الأسلوبي، يتموقع الفنان داخل تيار التعبيرية الواقعية، مع تأثر ملموس بأساليب الفن الحديث، لا سيما من حيث الجرأة اللونية، التركيب البصري، والانحياز للحركة الداخلية داخل المشهد. وهو بذلك لا يشتغل على “التمثيل” فقط، بل على تحويل المشهد اليومي إلى تجربة بصرية متجاوزة، تثير التأمل والانفعال معًا.
أما على الصعيد العالمي، فإن أعمال بنعالية مؤهلة بجدارة لأن تكون جزءًا من حوار تشكيلي دولي، لا سيما مع الفنون المهتمة بثقافة الجنوب، والهويات ما بعد الكولونيالية، والفن البصري المنبثق من الذاكرة الشفوية والممارسات الثقافية المحلية. فهي تحاور نظيراتها في إفريقيا، أمريكا اللاتينية، وآسيا، من حيث الانتماء للذات دون الانغلاق، والانفتاح على الآخر دون التفريط في الخصوصية.في خضم هذا كله، يظل مصطفى بنعالية فنانًا يُؤمن بأن اللوحة ليست فقط فضاءً للعرض، بل وسيلة للمقاومة الرمزية، والتربية الجمالية، والتعبير الثقافي العميق. وهو بذلك يشكل امتدادًا حداثيًا لفنان ملتزم، ومدرسة بصرية مستقلة، وصوتًا مغربيًا أصيلاً في فضاء الفن العالمي المعولم.
المغرب
ندرك جيدا أنه لا يستطيع الجميع دفع ثمن تصفح الصحف في الوقت الحالي، ولهذا قررنا إبقاء صحيفتنا الإلكترونية “راي اليوم” مفتوحة للجميع؛ وللاستمرار في القراءة مجانا نتمنى عليكم دعمنا ماليا للاستمرار والمحافظة على استقلاليتنا، وشكرا للجميع
للدعم: