هند عمر: كيف تحمي الأم نفسها من جحود الأبناء؟

هند عمر: كيف تحمي الأم نفسها من جحود الأبناء؟

هند عمر: كيف تحمي الأم نفسها من جحود الأبناء؟

هند عمر
 
هل هناك ما هو أقسى من أن تُدان من أقرب الناس إليك؟
هل هناك ما هو أوجع من أن يرفع أبناؤك أصابع الاتهام في وجهك دون أن يمنحوك فرصة للشرح أو التبرير؟
هذا هو العقوق الصامت حين يتحوّل الأبناء إلى قضاة، يصدرون الأحكام بلا مرافعة، وينسون أن قلب الأم ليس معصوماً، لكنه ليس مجرماً.
في حياة كثير من الأمهات، قد تمر لحظة صمت تصبح فيها الكلمات عبئًا، وقد تسقط دمعة في الخفاء لا يراها أحد، وتخبو أنفاس ثقيلة تحمل ما لا يُقال. هذه اللحظات ليست نادرة، بل هي الشاهد الصادق على ألمٍ لا يعرفه إلا من جرّب الجحود، حين يتحول الأبناء إلى غرباء، وحين تُدفع الأم إلى زاوية السؤال القاسي: كيف وصلنا إلى هنا؟
ليست كل الأمهات معصومات، وليست كل القرارات التي اتخذتها الأم في حياتها كانت صحيحة، لكنها كانت دائمًا تحاول أن تزرع الحب، وتسدّ الفجوات، وتحمل البيت على كتفيها بصمت. بعض التجارب تُربك حتى أكثر القلوب صلابة، وقد تجد الأم نفسها في علاقة كسرتها، أو في قصة انتهت بتشهير، أو في موقف أُسيء فهمه. لكن ما يجعل الجرح أعمق هو حين يكون العقاب من الأبناء، حين يتحولوا من أبناء إلى قضاة، ومن حضنٍ دافئ إلى لسان لاذع، وكأنهم لا يعرفون عن الأم إلا أنها أخطأت.
أمام هذا الجحود، لا بد أن تتعلم الأم كيف تحمي نفسها، لا عن قسوة، بل عن حكمة. الحماية هنا لا تعني الانغلاق أو الانسحاب، بل تعني أن تضع حدودًا لا تُهدّ، أن تستعيد كرامتها دون أن تفقد حنانها، أن تُرمم ذاتها بعيدًا عن الانتظار، وأن تُدرك أن من لا يرحم ضعفها لا يستحق أن يسكن أعماقها. فالمسامحة لا تعني أن تبقي الباب مفتوحًا على الأذى، والحب لا يعني أن تظل مهيأة للخذلان مرارًا.
من أول خطوات الحماية أن تُعيد الأم بناء نفسها بعيدًا عن أبنائها إن اضطرّت، لا لتبتعد عنهم، بل لتتوازن قبل أن تعود إليهم. أن تُدرك أن هويتها ليست متوقفة على رضاهم فقط، بل على رضا الله أولًا، ثم على احترامها لذاتها. عليها أن تملأ فراغها بما ينفعها: علم، عبادة، صحبة صالحة، أو حتى مشروع بسيط يرمم كسرها الداخلي. فحين ترى الأم نفسها تستعيد نبضها بعيدًا عن من خذلوها، تبدأ رحلة جديدة أكثر وعيًا.
الحماية أيضًا تبدأ حين تكفّ عن شرح نفسها، وتكفّ عن محاولة استرضاء من لا يفهم قلبها. ففي كثير من الأحيان، كثرة التبرير تستهلك النفس دون جدوى. ومن الأفضل أن تترك أعمالها وأيامها تتحدث عنها، أن تدعو الله سرًا، وتترك لله مهمة إعادة القلوب لها إن أراد، فكم من قلوب عاد أصحابها باكين نادمين بعد أن أفاقوا من قسوتهم.
الدين هنا لا يخذلها، بل يرفعها. فالله لا ينسى من بكت ظلمًا، ولا من أُهينت حبًا، ولا من كُسرت وهي تحاول أن تُحب وتُربي وتُرضي. يقول الله تعالى: “ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا” ولم يعلّق هذه الوصية على الكمال، بل جعلها مطلقة، لأن الأمومة بذاتها فضل، حتى لو اجتهدت فأخطأت. ولأن الأمومة ليست وظيفة، بل رسالة لا تليق إلا بالنبلاء.
ونسوا – أو تناسوا – أن الله تعالى يقول في سورة الإسراء:
“وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا”
ولم يقل: “إلا إذا أخطأوا، فعقّوهم”،
بل قال: “إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ” – وهي كلمة تضجر فقط، فكيف بالسبّ والتشهير والقطيعة؟
حماية الأم لنفسها بعد الجحود لا تعني القطيعة، بل تعني أن تعيش بكرامة. تعني أن تُحسن إلى من أحسن، وتدعو لمن أساء، لكن دون أن تبيع كرامتها على أعتاب العاطفة. فالله أعطاها مقامًا رفيعًا، وأمر ببرّها، فمن اختار أن يعقّها، فهو الذي يسقط، لا هي. والوقت كفيل بأن يُظهر الحقائق، ويكشف الأقنعة، ويعيد لكل قلبٍ ما يستحق.
قد لا تعود العلاقات كما كانت، وقد تبقى بعض الجروح شاهدة على لحظة غدر، لكنها لا تمنع الأم من أن تعيش، وتُكمل، وتفرح، وتنهض. فالحياة لا تتوقف على أحد، والوجع وإن طال، لا يُميت.
الأم التي تتعافى، تصنع من انكسارها معجزة، ومن صمتها حكمة، ومن ألمها حياة جديدة. فلا تنتظري أحدًا ليعتذر، ولا تتركي ماضيك يُعرّفك. يكفيك أن الله معك، وأن قلبك النقي أكبر من أي خذلان. ولعل من جحدوك اليوم، سيعودون يومًا يقبّلون يديك باكين، حين يدركون أن لا أحد يشبهك، ولا أحد يعوّضك، وأنك كنت دائمًا… الأم التي لا تُنسى، حتى حين يتظاهرون بنسيانها.
المرشدة التربوية

ندرك جيدا أنه لا يستطيع الجميع دفع ثمن تصفح الصحف في الوقت الحالي، ولهذا قررنا إبقاء صحيفتنا الإلكترونية “راي اليوم” مفتوحة للجميع؛ وللاستمرار في القراءة مجانا نتمنى عليكم دعمنا ماليا للاستمرار والمحافظة على استقلاليتنا، وشكرا للجميع
للدعم: