
خالد دراوشه: براندينغ الألم: كيف يُحوَّل الضحايا إلى رموز قابلة للتسويق؟
خالد دراوشه
مقدمة
في زمن تتسارع فيه حركة المعلومات وتنتشر فيه الصور والقصص عبر وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام المختلفة، بات الألم الإنساني أحد الموارد التي تستثمر في توجيه الانتباه وصياغة الوعي الجماهيري. هذا التحول الذي يشهد تحويل ضحايا الصراعات إلى رموز و”علامات” يجري استثماره في شكل نماذج يسهل استدعاؤها وإعادة إنتاجها عبر منصات الإعلام المختلفة، بهدف تحفيز التعاطف أو الدعم السياسي أو حتى بناء سرديات معينة. تُطرح هذه الدراسة تحت عنوان “براندينغ الألم” بمعنى تحويل الألم والوجع الإنساني إلى رموز قابلة للاستهلاك الإعلامي والسياسي، في سياق مركب من العمليات النفسية الاجتماعية والاستراتيجيات التسويقية الحديثة، مع التركيز على نموذج فيتنام كحالة تحليلية تمثّل تجربة انتقالية في استثمار الألم الإنساني وتشكيل صورة ضحايا قابلة للتسويق الجماهيري.
يتمثل الهدف الرئيس من هذه الدراسة في تحليل العمليات النفسية التي يقوم عليها استثمار الألم، وكيفية تشكيل الذهنية الجماهيرية حول ضحايا الصراعات، مع التركيز على آليات الإدراك الانتقائي، والتحيز التأكيدي، والتسويق العاطفي، إلى جانب تحليل الفوارق الثقافية التي تحدد طبيعة التعاطف والتفاعل مع تلك الرموز الإنسانية. هذا البحث يعالج السؤال المركزي: كيف تتحول الصور الحية للمعاناة الإنسانية إلى رموز تستهلكها المجتمعات الغربية، بينما يصمت الإعلام والمجتمع عن معاناة أخرى؟ ولماذا تُختار بعض الصراعات لتكون أكثر حضوراً في الوعي الجماهيري؟
الإطار النظري
الألم كرمز اجتماعي
في علم الاجتماع وعلم النفس الاجتماعي، يمثل الألم الجمعي أو الجماهيري ظاهرة تتحول إلى رمز يحمل معانٍ تتجاوز المأساة الفردية. الألم يتحول إلى “قصة” سردية تنقل رسائل معينة تعكس مصالح سياسية واجتماعية وثقافية (Turner, 2007). وفقًا لنظرية التمثيلات الاجتماعية (Moscovici, 1984)، فإن تجسيد الألم وتكوينه ضمن سرديات معينة يؤدي إلى تشكيل تمثيلات نمطية تكرس تفكيرًا معينًا حول الضحية، المسؤولية، والعدالة.
الإدراك الانتقائي والتحيز التأكيدي
يعمل الإدراك الانتقائي على تصفية المعلومات بحيث يتركز الانتباه على ما يتماشى مع القناعات أو الاهتمامات المسبقة، متجاهلاً ما يتعارض معها (Nickerson, 1998). أما التحيز التأكيدي (Confirmation Bias) فهو ميل الإنسان للبحث عن المعلومات التي تدعم اعتقاداته المسبقة، مما يعزز من ثبات الصور النمطية ويعمق الفجوات في التفاهم الاجتماعي (Nickerson, 1998). هذان المفهومان مهمان لفهم كيف يتم اختيار وتكرار صور معينة للألم الإنساني في الإعلام الغربي، بينما تُهمل أخرى.
التسويق العاطفي ورمزية الهوية الجماعية
تُعد استراتيجيات التسويق العاطفي أساسية في صناعة الوعي حول ضحايا الصراعات، حيث تستثمر في إثارة مشاعر الغضب، الحزن، والتعاطف لدى الجمهور. بحسب ليبكين (Liebkind, 2010)، يتم ربط هذه المشاعر برموز وهوية جماعية معينة لتكوين دعم سياسي أو تضامن اجتماعي. تصبح الرموز المرئية مثل صور الأطفال الضحايا، الدمار المدمر، أو قصص الأبطال صيغاً تكرارية لرسائل يمكن تسويقها إعلاميًا.
البُعد الثقافي للوعي بالضحية
تلعب الخلفيات الثقافية دورًا محوريًا في تشكيل التعاطف، إذ إن الشعوب تميل إلى التعاطف مع من يرونهم قريبين منهم ثقافيًا، دينيًا أو عرقيًا (Hofstede, 2001). هذا يفسر التفاوت في استجابات المجتمعات الغربية للأزمات المختلفة. على سبيل المثال، معاناة فيتنام خلال الحرب انعكست في ثقافة الغرب بشكل أكبر مقارنة بصراعات أخرى.
التحليل المفاهيمي: براندينغ الألم
في هذا البحث يُقصد ببراندينغ الألم عملية صنع “هوية رمزية” للضحايا، تنقل معاناتهم عبر أدوات الإعلام، الثقافة الشعبية، والخطاب السياسي بشكل يمكن لجمهور واسع استهلاكه وفهمه بسرعة. يتحقق هذا من خلال عناصر متعددة:
التبسيط: تحويل القصة المعقدة إلى رموز مبسطة (طفل، امرأة، منزل محطم).
التكرار: استدعاء نفس الرموز بشكل مستمر لتعزيز الأثر النفسي.
التجريد: فَصل الضحية عن سياقها السياسي والاجتماعي المعقد.
الاختيار الانتقائي: تسليط الضوء على جانب معين من الألم يتوافق مع أجندة الإعلام أو الجمهور.
هذه العملية تحول الألم إلى “منتج ثقافي” يتبع قواعد متشابكة من الترويج والإعادة.
دراسة حالة: نموذج فيتنام
شهدت الحرب الفيتنامية استخدامًا مكثفًا لصور وأفلام توثيقية لعبت دورًا محوريًا في صياغة وعي شعوب الغرب حول معاناة الضحايا المدنيين. رُوج لأحداث القصف، التلوث بالمواد الكيميائية، والدمار المدني عبر وسائل الإعلام الأمريكية والأوروبية، مما أدى إلى تحوّل القصة الفيتنامية إلى رمز عالمي للمعاناة وإنسانية الحرب.
في هذه الحالة:
الإدراك الانتقائي: ركز الإعلام الغربي على الجوانب الإنسانية للضحايا الفيتناميين، مستثمراً مشاعر الذنب والعدالة لدى الجماهير.
التسويق العاطفي: استخدمت الأفلام الوثائقية، الصور الصادمة، والأغاني لتفعيل مشاعر الحزن والغضب.
الهوية الجماعية: نظراً لتوجهات الثقافة الغربية ضد الحروب الاستعمارية والعدوانية في ذلك الوقت، تحولت فيتنام إلى رمز لـ “الضحية الضعيفة” التي تستحق التعاطف.
لكن تجدر الإشارة إلى أن هذا الرمز ترافق مع تجريد للصراع من أبعاده السياسية المعقدة، حيث اقتصر التركيز على المعاناة الإنسانية دون التركيز الكافي على الأسباب السياسية أو دور القوى المحلية والإقليمية.
مقارنة ثقافية وتحليل تفاوت التعاطف
التعاطف مع الضحايا يخضع لتحولات ثقافية عميقة. تتأثر استجابة الجمهور الغربي بصور الضحايا من خلال عوامل مثل الدين، العرق، الخلفية الثقافية، والسياسة الدولية (Hofstede, 2001). فمثلاً، ضحايا فيتنام الذين يُصورون كمدنيين بلا سلاح، تلقوا تعاطفًا واسعًا في الغرب بسبب الرؤية المعادية للحرب السائدة وقتها. أما ضحايا صراعات أخرى كفلسطين، فلا تحظى بالذات التغطية الإعلامية والتعاطف، ويرجع ذلك إلى عوامل عدة منها الأبعاد السياسية، العلاقات الدولية، ووسائل الإعلام المتحكم بها.
تأثير وسائل الإعلام الجديدة
تأتي وسائل التواصل الاجتماعي اليوم كمسرح رئيسي لعملية تحويل الألم إلى رموز، لكن مع اختلاف مهم؛ إذ إن المحتوى يُنتج من الضحايا أنفسهم، مما يمنحهم صوتًا شخصيًا مباشرًا. في حالة فيتنام، كان الإعلام التقليدي هو المسيطر، بينما اليوم، تحوّل الضحايا إلى رواة قصصهم بشكل مباشر، يثبّت ذلك التعاطف من جهة ويعقّد الصور النمطية من جهة أخرى (Couldry & Mejias, 2019).
الخاتمة
تؤكد هذه الدراسة أن عملية “براندينغ الألم” ليست مجرد ظاهرة إعلامية أو تسويقية عابرة، بل هي معقدة وتتشابك مع عوامل نفسية، ثقافية وسياسية متعددة. تُستثمر معاناة الضحايا في تشكيل رموز استهلاكية تعزز توجهات سياسية واجتماعية معينة، وتساعد في توجيه الرأي العام. نموذج فيتنام يوضح كيف يمكن للألم أن يتحول إلى رمز قابل للتسويق إعلاميًا، مع ملاحظات حول التبسيط المفرط الذي قد يمحو التعقيدات الحقيقية للصراعات.
يبقى السؤال: كيف يمكن تطوير آليات إعلامية تسمح بتقديم صورة أكثر تكاملاً وإنسانية للمعاناة، لا تختزل الضحايا في رموز فقط، بل تفتح المجال لفهم أعمق ومناهج دعم حقيقية تتجاوز مجرد استهلاك الألم؟
قائمة المراجع
Couldry, N., & Mejias, U. A. (2019). The costs of connection: How data is colonizing human life and appropriating it for capitalism. Stanford University Press.
https://doi.org/10.1515/9781503608550
رابط الكتاب على Stanford Press
Hofstede, G. (2001). Culture’s consequences: Comparing values, behaviors, institutions and organizations across nations (2nd ed.). Sage Publications.
https://doi.org/10.4135/9781452232853
رابط الكتاب
Liebkind, K. (2010). Emotions, identity, and intergroup relations: The role of emotion in conflict and peace. In J. M. Olson, C. P. Herman, & M. P. Zanna (Eds.), Social psychology: Handbook of basic principles (2nd ed., pp. 762–785). Guilford Press.
رابط ملخص الفصل
Moscovici, S. (1984). The phenomenon of social representations. In R. M. Farr & S. Moscovici (Eds.), Social representations (pp. 3–69). Cambridge University Press.
https://doi.org/10.1017/CBO9780511628920.003
رابط الكتاب
Nickerson, R. S. (1998). Confirmation bias: A ubiquitous phenomenon in many guises. Review of General Psychology, 2(2), 175–220.
https://doi.org/10.1037/1089-2680.2.2.175
رابط المقال
Turner, V. (2007). The ritual process: Structure and anti-structure. Aldine Transaction.
رابط الكتاب
Chouliaraki, L. (2013). The ironic spectator: Solidarity in the age of post-humanitarianism. Polity Press.
https://doi.org/10.2307/j.ctt24hc60
رابط الكتاب
Fassin, D. (2012). Humanitarian reason: A moral history of the present. University of California Press.
https://doi.org/10.1525/california/9780520272456.001.0001
رابط الكتاب
Sontag, S. (2003). Regarding the pain of others. Farrar, Straus and Giroux.
رابط الكتاب
Zelizer, B. (2010). About to die: How news images move the public. Oxford University Press.
https://doi.org/10.1093/acprof:oso/9780199737360.001.0001
رابط الكتاب
Klein, N. (2007). The shock doctrine: The rise of disaster capitalism. Metropolitan Books.
رابط الكتاب
Sideris, L. (2003). Seeing and believing: Cultural narratives of victimization and collective memory. Journal of Trauma & Dissociation, 4(2), 45-62.
https://doi.org/10.1300/J229v04n02_04
رابط المقال
Butler, J. (2009). Frames of war: When is life grievable? Verso.
رابط الكتاب
Foucault, M. (1980). Power/knowledge: Selected interviews and other writings, 1972-1977. Pantheon Books.
رابط الكتاب
Manovich, L. (2001). The language of new media. MIT Press.
رابط الكتاب
Schein, L. (2003). Constructing victimhood in the media: A case study of the Kosovo conflict. Media, War & Conflict, 6(2), 124–143.
https://doi.org/10.1177/1750635216641637
رابط المقال
Zizek, S. (2008). Violence: Six sideways reflections. Picador.
رابط الكتاب
KhosraviNik, M. (2010). The representation of refugees, asylum seekers and immigrants in British newspapers. Journal of Language and Politics, 9(1), 1–28.
https://doi.org/10.1075/jlp.9.1.01kho
رابط المقال
Hall, S. (1997). The spectacle of the ‘other’. In S. Hall (Ed.), Representation: Cultural representations and signifying practices (pp. 223–290). Sage Publications.
رابط الكتاب
Baudrillard, J. (1994). Simulacra and simulation (S. F. Glaser, Trans.). University of Michigan Press. (Original work published 1981)
رابط الكتاب
ندرك جيدا أنه لا يستطيع الجميع دفع ثمن تصفح الصحف في الوقت الحالي، ولهذا قررنا إبقاء صحيفتنا الإلكترونية “راي اليوم” مفتوحة للجميع؛ وللاستمرار في القراءة مجانا نتمنى عليكم دعمنا ماليا للاستمرار والمحافظة على استقلاليتنا، وشكرا للجميع
للدعم: