عمرو منير دهب يكتب: شاعر عظيم وكفى

عمرو منير دهب يكتب: شاعر عظيم وكفى

“وقد أراد أن يبني مسرحاً في قطعة أرض للسيدة زوجه في شارع جلال لولا احتجاج أولاده ووقوفهم في وجهه. وأراد أن يكون رجل أعمال، وذلك للهواية لا للاستغلال، فأقدم على شراء ثلاثمائة فدان كان وسيطها يهودياً ماكراً استغل سوء خبرته فورّطه في صفقة خاسرة كلفته عمارتين ضخمتين في شارع حسن الأكبر وراء قصر الجمهورية تغل على السيدة زوجه مائتين من الجنيهات شهرياً، وذلك غير وفر محبوس طوال نفيه في إسبانيا هو وأسرته. خسر كل هذا لأنه هوى أن يكون رجل أعمال وتاجر أراض وفلّاحاً. وقد كلّف مزاجُه الخاص وهواه السيدةَ زوجه المالَ الكثير، فقد كان تاجراً فاشلاً ومزارعاً فاشلاً ورجل أعمال فاشلاً”.

ذلك ممّا قاله أحمد محفوظ في كتابه “حياة شوقي” عن التاجر والمزارع ورجل الأعمال الفاشل، ولكنه حتماً كان الشاعر العظيم؛ فهل كان أميرنا بِدعاً في ذلك (العظمة في الفن والفشل في غيره من مجالات العمل والتألق في الحياة)؟

في “التفتيش في قلب المتنبي” عرضنا بتفصيل للحالة الأشهر ربما في تاريخنا الشعري العربي على هذا الصعيد؛ وعن المتنبي وحالته التي يصعب تجاوزها خاصة في إطار المقارنة مع أحمد شوقي، وضمن موضع/فصل لاحق من كتابه، يقول أحمد محفوظ: “فهذا المتنبي الشاعر الفحل الخالد قد طوف في الآفاق وجاب البلاد وحمل الكثير من الآلام ليظفر بولاية صغيرة يشرف بها في وهمه، فقد أغضب سيف الدولة وخاصمه وهجره لأنه لم تسوّده حلب وتشرّفه بوظيفة. ونزل مصر ومدح كافوراً بمدائح لم تقل في حاكم قبله، ولمّا يئس من تقليده هذه الولاية المرموقة ذمّه ذمّاً لم يُذم به حاكم من قبل”.

يواصل محفوظ في السياق ذاته مع حالات عربية وغير عربية من الماضي والحاضر: “وقبله إبراهيم بن المهدي الفنان المغني (ابن الخليفة المهدي وأخو الخليفة هارون الرشيد، ما يمنحه خصوصية استثنائية في هذا السياق) اهتبل الفرصة بعد موت الخليفة محمد الأمين العباسي واضطراب أمر بغداد وغياب المأمون في خراسان ودعا لنفسه بالخلافة… وبلاء الشاعر البارودي معروف، فقد انضم إلى الزعيم أحمد عرابي المصري الفلاح، وهو الشركسي الأصل، وحارب في صفه إخوانه الشركس وأبناء عمومته الأتراك ليظفر بمكان في السياسة ويصبح وزيراً ثم رئيساً للوزارة. وفي عصرنا هذا ألّف جبرائيل داننزيو (غابرييل دانونزيو) الشاعر الإيطالي جيشاً وحارب حتى استولى على فيوم وأقام نفسه حاكماً عليها (بحسب ويكيبيديا: أسس ولاية ريجينسي كارنارو الإيطالية التي استمرت لوقت قصير فقط في رييكا، وأعلن نفسه دوقًا لها). وبلسودسكي عازف البيانو الأشهر (يقصد على الأرجح إغناسي جان/يان باديريفسكي) أمّ قومه البولونيين وحارب حتى ظفر باستقلال بلاده ونصبوه رئيساً للجمهورية (رئيساً للوزراء). وغير هؤلاء كثير من الفنانين والشعراء والكتاب استخفّتهم السياسة فماتوا دونها، وقليل منهم من انتفع بها وسلمت له أيامُه في ظلها”.

لينتهي المؤلف في هذا المقام، أو على الأقل ينتهي اقتطافنا كما نبتغي من دلالاته، إلى ما يلي: “فليس بمستغرب على شوقي أن يزج بنفسه في غمار السياسة، وليس اقتحامه لها في عهد الأحزاب البائدة هو أول عهده بالسياسة. فقد اقتحمها أيام عباس الثاني وأبلى فيها بلاء مشهوداً، فقد كان هو صلة الوصل بين السراي والحزب الوطني، وبين السراي والصحف المصرية والأجنبية”.

بالارتداد إلى المقارنة مع الشاعر العربي الأشدّ تأثيراً على مرّ العصور، كونه يشكّل بالفعل مع أميرنا هذا – الأبرع فنّياً بدوره على مرّ العصور في الشعر الغنائي – الثنائي الأحق بالمقارنة من جهة السمو الفنّي؛ بالارتداد إلى تلك المقارنة نجد أن المتنبّي كان يعلم يقيناً عبقريّته الشعرية لكنه كان يمنّي نفسه بالمجد السياسي فوق ما يمنّيها بالمجد الأدبي، أو لعلّه كان ينظر إلى مجده الأدبي بوصفه مسألة مفروغاً منها في حين يستحق مجده السياسي – الذي لم يتحقق بأي قدر – أن يكرّس له أحلامه وطموحه. في المقابل لم يكن شوقي معنيّاً بأي مجد خارج الإطار الأدبي العام والشعري تحديداً، ولم تكن مساعيه في غير ذلك من المجالات – كالسياسة والأعمال – سوى لغرضين بصفة عامة: الوصول إلى النافذين بغرض كسب العيش الهانئ أساساً والظهور الذي يضمن تحقق التألق والمجد الأدبي، ولتزجية الوقت وضمان مصدر رزق إضافي وفير بصورة موازية.

وإذ بلغ المتنبي – كما رأينا بتفصيل عند التفتيش في قلبه – غاية منفردة في الإعلاء من قيمته الأدبية إلى حدّ عدم التورّع عن الإساءة إلى الآخرين من العامة وصفوة الشعراء والأدباء وحتى الملوك والأمراء الذين مدحهم، فإن مفاخرات شوقي بتفرّده الفني لم يكن مبعثها سوى اعتداد إبداعي أصيل حتى إذا انطوى بعضها على المبالغة؛ ولم يكن وراء ذلك الاعتداد ما يمكن النظر إليه بوصفه نرجسية متجذّرة وطاغية على كل جوانب حياته على نحو ما كان مع سلفه ومحطّ اهتمامه على صعيد نشدان المجد الأدبي: المتنبي.

قال شوقي:

لولا مُغالَبَةُ الشُجونِ لِخاطِري ** لَنَظَمتُ فيكَ يَتيمَةَ الأَزمانِ

وَأَنا الَّذي أَرثي الشُموسَ إِذا هَوَت ** فَتَعودُ سيرَتها إِلى الدَوَرانِ

قَد كُنتَ تَهتُفُ في الوَرى بِقَصائِدي ** وَتُجِلُّ فَوقَ النَيِّراتِ مَكاني

ماذا دَهاني يَومَ بِنتَ فَعَقَّني ** فيكَ القَريضُ وَخانَني إِمكاني

تحمل الأبيات أعلاه المقتطفة من رثاء مصطفى كامل مزيجاً من الاعتداد المبالغ فيه والتواضع الزائد على الحاجة، فليس جميلاً أن يتداخل الفخر إلى حدّ الزهو ببعث سيرة الموتى من النابهين إلى الحياة كما في البيت الثاني من المقتطف مع حالة الحزن العميق المؤكدة في البيت الذي قبله، وجواب لولا ليس ممتنعاً أصلاً برغم وجود شرطها، فالقصيدة مما ينتظم مع غيرها من الفرائد في عقد المرثيات العظيمة في الشعر العربي، فلا القريض عقّ الشاعر في رثاء الزعيم الراحل ولا خانه إمكانه البلاغي.

وقال شوقي معجباً بشعره وعاجباً – أو للدقة داعياً القارئ إلى العجب – لانتشاره بكل محلة على كل لسان:

رُواةُ قَصائِدي فَاعجَب لِشِعرٍ ** بِكُلِّ مَحَلَّةٍ يَرويهِ خَلقُ

وقال في قصيدة أخرى على صعيد التباهي ذاته:

وَكَأَنَّهُ في الفَتحِ عَمّورِيَّةٌ ** وَكَأَنَّني فيهِ أَبو تَمّامِ

أَسِمُ العُصورَ بِحُسنِهِ وأَنا الَّذي ** يَروي فَيَنتَظِمُ العُصورَ كَلامي

وإذا كان الأمير يقرن نفسه هنا بأبي تمام العظيم فإن القرن/المقارنة مستحقة، بل يتنصر فيها شوقي على الصعيد الفني بصفة عامة؛ وإن تكن الغلبة في مقام المفاضلة بين بائية شوقي في انتصار الأتراك وبائية أبي تمام الشهيرة في انتصار المعتصم في عمورية تجنح إلى الحكم لصالح أبي تمام كما سنرى لاحقاً عند قراءة معارضات الأمير؛ أمّا في القصيدة التي أخذنا عنها البيتين السابقين فالتشبيه على سبيل مبالغة ليست في محلّها بحال، فما العلاقة بين فتح عمورية وافتتاح دار جديدة لبنك مصر؟ وإن يكن المستوى الفني الرفيع للقصيدة يشفع لتمرير المبالغة الشاردة على كل حال.

أمّا فيما يلي فيجوز أن نمرّر التشبيه تماماً، فأميرنا أرفع قيمة فنية من حسان بن ثابت لا ريب، وإن يكن ما جاء في البيتين الثاني والثالث من المقتطف أدناه ليس دقيقاً، فقد جازت الصدقات على أمير الشعراء من الأمير الحقيقي، وإن تكن تحت مسمّيات أخرى تحفظ وجه الأمير المجازي:

وَمازِلتُ حَسّانَ المَقامِ وَلَم تَزَل ** تَليني وَتَسري مِنكَ لي النَفَحاتُ

زَهِدتُ الَّذي في راحَتَيكَ وَشاقَني ** جَوائِزُ عِندَ اللَهِ مُبتَغَياتُ

وَمَن كانَ مِثلي أَحمَدَ الوَقتِ لَم تَجُز ** عَلَيهِ وَلَو مِن مِثلِكَ الصَدَقاتُ

وبصرف البصر عن تقديمنا بثقة لشوقي على المتنبي من الوجهة الفنية المحضة وبداعي غزارة الإنتاج الأدبي واتساع أغراضه، فإن البيت التالي ليس دقيقاً تماماً، فالمتنبي لم تكن أشهر عيوبه الفنية أنه يخلط الغث والسمين في شعره:

وَلي دُرَرُ الأَخلاقِ في المَدحِ وَالهَوى ** وَلِلمُتَنَبّي دُرَّةٌ وَحَصاةُ

بكل ما سبق في الاعتبار، كان شوقي مدركاً بوضوح عبقريّتَه الشعرية، ولم يكن يخلطها في خاطره بعبقرية أخرى متوهّمة في السياسة أو غيرها من مجالات الحياة؛ وحسبه أنه شاعر عظيم، فذلك الذي ضمن له المجد؛ ومن حسن حظه – على خلاف المتنبي – كما أشرنا أنه لم يكن يمنّي نفسه أصلاً بمجد خارج نطاق الأدب، أو – للدقة – لم يكن يتطلّع إلى المجد في مجال مثلما تطلّع إليه في الأدب، بل في الشعر على وجه التحديد.

للتواصل مع الكاتب: ([email protected])