
نحو يقظة استراتيجية إسلامية: قراءة في التحول الإيراني-الباكستاني بوصفه نواة لتحرر سيادي
د. معن علي المقابلة
في مناخ إقليمي تتصاعد فيه وتيرة التحالفات الأمنية والتكنولوجية العابرة للحدود، وفي ظل انكشاف كثير من الثوابت الاستراتيجية التي حكمت السياسات الإقليمية منذ عقود، جاء موقف مجلس الشيوخ الباكستاني بالتصويت بالإجماع لصالح دعم إيران في مواجهة التهديدات الإسرائيلية، كإشارة فارقة لا يمكن اختزالها في بعدها الرمزي أو الظرفي.
ما يحدث، على الأرجح، هو بداية لتشكّل عقل استراتيجي إسلامي جديد، يعي أن ما يُدار في المنطقة ليس مجرد صراع نفوذ، بل إعادة هيكلة كاملة لمفهوم القوة والسيادة، ومحاولة لضبط التوازنات وفق رؤية إسرائيلية–غربية، لا ترى في العالم الإسلامي سوى كيان غير مكتمل السيادة، قابل للترويض أو التفكيك.
لم يكن التحرك الباكستاني الأخير انعكاسًا لتقلبات السياسة الإقليمية فحسب، بل نتاجًا لتراكم وعي أمني عميق، بات يرى في التحالف الهندي-الإسرائيلي تهديدًا وجوديًا يتجاوز الجغرافيا. فالتعاون بين نيودلهي وتل أبيب لم يعد محصورًا في بيع السلاح، بل تمدد إلى بناء شراكات استخباراتية وتكنولوجية تستهدف تقييد الحراك الباكستاني داخليًا (كشمير) وخارجيًا (في المحيط الإسلامي الأوسع).
ضمن هذا الإطار، يصبح الانفتاح على طهران خيارًا استراتيجيًا أكثر منه مجرد رسالة رمزية. إذ تدرك إسلام آباد أن تموضعها المستقبلي لا يمكن أن يُبنى على العزلة أو الحياد السلبي، بل على إعادة صياغة تحالفات قادرة على خلق توازن ردع حقيقي، يتكئ على مبدأ: “الخطر المشترك يتطلب مظلة ردع مشتركة”.
التصريحات الإسرائيلية المتكررة، وعلى رأسها تصريح نتنياهو في 2011 بشأن ضرورة منع أي دولة إسلامية – بما فيها باكستان – من امتلاك السلاح النووي، لا تعكس سياسة ظرفية، بل تعبيرًا صريحًا عن عقيدة أمن قومي صهيونية تعتبر أن التهديد الوجودي ليس في إيران بذاتها، ولا في تركيا أو باكستان، بل في فكرة “الاستقلال السيادي الإسلامي”.
إنها مواجهة مع النموذج، لا مع الدولة. ومع الإرادة، لا مع القدرة فقط. ولهذا فإن كل دولة إسلامية تسعى إلى بناء منظومة تكنولوجية أو دفاعية مستقلة، تُوضع مباشرة في خانة التهديدات المحتملة، بصرف النظر عن خطابها السياسي أو موقعها الجغرافي.
في ظل هذا التحول، يزداد التباين وضوحًا بين نمط التفاعل الإيراني–الباكستاني، وبين الأداء السياسي العربي الذي لا يزال، في جزء كبير منه، أسير منطق “الاستقرار المدجّن”، أو ما يمكن تسميته بـ”سياسات إدارة الجمود”.
إن الإصرار على تصوير إيران بوصفها التهديد الأول، وتجاهل التحولات الاستراتيجية الجارية على مستوى التحالفات المعادية، هو أقرب إلى قراءة انطباعية سطحية، تغفل أن التهديد الإسرائيلي لا يُقاس على أساس قرب أو بعد العلاقات الرسمية، بل على أساس مدى اقتراب الدولة الإسلامية من عتبة الاستقلال الحقيقي في القرار والتكنولوجيا والردع.
التحالف المحتمل بين إيران وباكستان لا يحمل فقط أبعادًا عسكرية أو دبلوماسية، بل يمثّل لحظة إمكان تاريخي لإعادة تعريف الأمن القومي الإسلامي بوصفه قضية مركبة، تتجاوز أمن الحدود إلى أمن الفكرة، وتنتقل من منطق الرد على التهديد إلى منطق بناء القوة الذاتية.
إن أكثر ما يُقلق صناع القرار في تل أبيب ليس حجم الأسلحة ولا طبيعة الأنظمة، بل احتمالية تشكّل “عقل سياسي إسلامي موحّد”، يستند إلى رؤية استراتيجية لا ترى الاستقلال ترفًا، بل شرطًا وجوديًا لأي مشروع نهضوي.
في هذا السياق، فإن تحالفًا إسلاميًا يبدأ من باكستان وإيران، وقد تلتحق به تركيا لاحقًا، لا يجب قراءته فقط كتحالف جغرافي، بل كبداية لإمكانية صياغة تكتل سيادي جديد، يعيد ترتيب أولويات الأمة من الداخل، ويمنح مفهوم “الاستقلال الإسلامي” أداةً تطبيقية على الأرض، بدل بقائه حبيس الشعارات الخطابية.
والسؤال الجوهري هنا: هل تمتلك العواصم العربية القدرة على تجاوز منطق “المحاور المتنازعة” نحو عقلية التكتلات الرشيدة؟ أم أنها ستظل تدور في فلك الاستراتيجيات الغربية، حتى تفقد ما تبقى من قدرتها على صياغة مستقبلها بنفسها.
إن ما يحتاجه العالم الإسلامي اليوم، خاصة في نخبته الفكرية والسياسية، ليس مزيدًا من التحذير من “الخطر القادم”، بل جرأة في صياغة مشروع بديل، يستند إلى وعي إستراتيجي جمعي، يربط بين الذاكرة التاريخية والاستحقاقات المستقبلية.
فالتحرر، في النهاية، لا يُستورد. بل يُبنى على أرضية صلبة من الوعي، والتخطيط، وإرادة تصنع مستقبلًا لا يكون مرآة لمخاوف الآخر، بل تعبيرًا عن طموحات الذات الجماعية.
باحث وناشط سياسي/الاردن
[email protected]
ندرك جيدا أنه لا يستطيع الجميع دفع ثمن تصفح الصحف في الوقت الحالي، ولهذا قررنا إبقاء صحيفتنا الإلكترونية “راي اليوم” مفتوحة للجميع؛ وللاستمرار في القراءة مجانا نتمنى عليكم دعمنا ماليا للاستمرار والمحافظة على استقلاليتنا، وشكرا للجميع
للدعم: