
ترامب والمقامرة بالخراب: حين يتحول المتهور إلى تهديد عالمي
فاطمة عواد الجبوري
في مشهد يعكس انحدارا خطيرا في موازين المسؤولية الدولية والاستراتيجية، أقدم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على شن ضربة عسكرية مفاجئة ضد منشآت نووية إيرانية في عمق الأراضي الإيرانية، في تعاون عسكري مباشر مع إسرائيل. هذا الهجوم لم يكن مجرد عملية استباقية أو محاولة لاحتواء خطر وشيك، كما يحاول البيت الأبيض تصويره، بل جاء كتعبير فاضح عن تهور استثنائي، يُعرّض الأمن الدولي للخطر، ويُقوّض كل أكاذيب الشرعية الأخلاقية والدبلوماسية للولايات المتحدة على الساحة العالمية.
لطالما سوّقت واشنطن، عبر عقود من الزمن، السردية القائلة إن إيران تشكل التهديد الحقيقي للأمن الإقليمي والدولي. وظفت في ذلك شبكات إعلامية ضخمة، وعقوبات اقتصادية خانقة، وتحالفات عسكرية متشابكة في الخليج، وعقيدة “الردع”، وبرامج تسليح شاملة في الشرق الأوسط، وصورة نمطية لإيران باعتبارها “دولة مارقة” لا يمكن الوثوق بها. غير أن الواقع الميداني والدبلوماسي الذي أعقب الضربات الأمريكية الإسرائيلية المشتركة على المنشآت النووية الإيرانية والمباني السكنية والمتسشفيات هناك، كشف زيف هذا الادعاء، بل وأظهر بما لا يدع مجالاً للشك أن من يشكل تهديدًا فعليًا للاستقرار الدولي ولأمن العالم بأسره، هما أمريكا نفسها وحليفتها الاستراتيجية إسرائيل.
إن سلوك ترامب لا يمكن فصله عن نمط طويل من القرارات المتهورة التي تتجاهل أعراف العلاقات الدولية والمؤسسات الرقابية والدستورية. فقرار الهجوم لم يُعرض على الكونغرس، ولم يتم تبريره بأي معلومات استخباراتية واضحة للرأي العام الأمريكي، ولم يحظَ حتى بإجماع داخل إدارته الحزبية. لقد اتخذ قرارًا بالحرب في منتصف الليل، دون تفويض شعبي أو قانوني، ما يكشف بوضوح عن خلل بنيوي في آلية صنع القرار الأمريكي، حين تُمكّن المؤسسات رئيسا واحدا، بخطاب شعبوي، من تغيير خارطة المنطقة، وإشعال فتيل حرب إقليمية قد تتسع لتتجاوز حدود الشرق الأوسط.
والأخطر من ذلك، أن ترامب لم يكتفِ باستخدام القوة العسكرية خارج إطار الشرعية الدولية، بل فعل ذلك لدعم مباشر من إسرائيل، الكيان الذي يمتلك سجلًا ممتدًا من الاعتداءات على السيادة الإقليمية لدول المنطقة، وتاريخًا طويلًا من الانتهاكات للقانون الدولي دون مساءلة. إن المشاركة “الهمجية” كما وصفتها وسائل إعلام أوروبية، لأمريكا وإسرائيل في هذه الضربات، يضيف بُعدًا آخر أكثر خطورة على العملية، ويجعل من واشنطن وتل أبيب شريكتين مباشرتين في تهديد الأمن العالمي.
لقد بات من الواضح، حتى في أعين حلفاء أمريكا الأوروبيين، أن واشنطن لم تعد تتصرف كقوة “ضابطة للإيقاع الدولي”، بل كقوة “مفجرة للتوازنات” ومتجاوزة لأي ضوابط قانونية أو أخلاقية. فقد أصدرت الأمم المتحدة بيانًا يُعبّر عن “قلق بالغ” من التصعيد الأمريكي، بينما توالت الإدانات الدولية من موسكو وبكين وبروكسل وأوتاوا، وسط دعوات عاجلة لضبط النفس والعودة إلى الحوار. إن هذا المشهد الدبلوماسي الذي كان يُرى عادة عند اعتداءات دول “مارقة”، يتكرر اليوم بسبب أفعال دولة تُصنّف نفسها كحامية للنظام العالمي، وهو ما يمثل مفارقة سوداء بامتياز.
ولعل ما يثير السخرية المرة، أن الرواية الأمريكية الرسمية حاولت تبرير هذه العملية بأنها تهدف إلى “منع إيران من الوصول إلى السلاح النووي”، رغم أن كل التقارير المخابراتية، بما فيها الأمريكية، لم تؤكد وجود قرار سياسي لدى طهران بالتحول نحو امتلاك سلاح نووي. بل إن مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية أقروا، في أكثر من تقرير، بأن طهران ملتزمة، رغم الضغوط، بالقيود المفروضة عليها وفق الاتفاق النووي، أو على الأقل، أنها لم تتجاوز الخطوط الحمراء التي تستوجب عملاً عسكريًا.
إذن، ما الذي يدفع ترامب لمثل هذا التصعيد؟ ما هي مبرراته إن لم تكن أمنية فعلية؟ الإجابة تكمن في البعد السياسي – النفسي لسلوكه، ذلك الذي يميل إلى المقامرة والمواجهة بدل الدبلوماسية والتوازن، وهو ما يجعل من وجوده على رأس القرار الأمريكي خطرًا وجوديًا على النظام العالمي نفسه، لا فقط على أمن الشرق الأوسط.
إن الضربة التي أمر بها دونالد ترامب ضد المنشآت النووية الإيرانية لم تكن مجرد عمل عسكري، بل كانت نقطة تحوّل استراتيجية في صورة الولايات المتحدة أمام العالم. ما حصل مؤخرًا أسقط قناع الأمريكي تمامًا، وكشف للعالم عن دولة باتت تتصرف كـ”قوة منفلتة” خارج أي ضوابط، سياسية كانت أم قانونية.
لقد تسبب هذا الهجوم، غير المبرر أخلاقيًا ولا قانونيًا، في حالة من الصدمة الدبلوماسية لدى حتى أقرب حلفاء الولايات المتحدة. بل إن بعض التحليلات الألمانية ذهبت إلى اعتبار هذا الهجوم “نقطة اللاعودة” في صورة أمريكا العالمية، وأداة إثبات بأنها لم تعد القائد الشرعي للنظام الليبرالي الدولي، بل أحد أكبر التهديدات له.
في هذا السياق، لا يمكن إغفال الدور الإسرائيلي في التصعيد. فإسرائيل فشلت لوحدها في تحقيق أهدافها في إيران عبر ضرباتها ضد البنى التحتية السكنية. وإذا ما وُضعت هذه الحادثة في سياق سنوات من الحصار على غزة وممارسة الإبادة هناك، واحتلال الضفة الغربية، والاعتداءات المتكررة في سوريا ولبنان والعراق، فإن المحصلة تصبح واضحة وهي أنّ إسرائيل وأمريكا تتحركان كتحالف عسكري – استخباراتي يضرب حيثما شاء، دون اعتبار لأي توازنات إقليمية أو دولية.
النتيجة المباشرة لهذا السلوك المتهور كانت إعادة إيران إلى خانة “الضحية”، وليس “المعتدية”، في أعين كثير من القوى العالمية. فقد تعاطفت الصين وروسيا بشكل فوري مع الموقف الإيراني، ليس بدافع الاصطفاف السياسي فحسب، بل لأن الضربة الأمريكية مثلت تعديًا صريحًا على مبدأ السيادة الوطنية، وهو مبدأ أساسي في المنظومة الأممية. وقد تجلّى هذا التحول في جلسة مجلس الأمن الطارئة، التي اتهم فيها مندوبو عدة دول أمريكا بأنها خرقت ميثاق الأمم المتحدة، وعرضت الأمن والسلم الدوليين للخطر، تمامًا كما تفعل الدول التي تتهمها واشنطن عادةً بالإرهاب أو العدوان.
أما على الصعيد الإقليمي، فقد أثار الهجوم حالة من الرعب الوجودي لدى دول الخليج والدول المجاورة لإيران، والتي تخشى من اندلاع حرب واسعة لا تبقي ولا تذر. هذا يعني أن القواعد الأمريكية المنتشرة في المنطقة، أصبحت في مرمى أي تصعيد قادم. لقد ورّط ترامب المنطقة في حسابات لا علاقة لها بها، وجعلها رهينة لقرارات أمريكية لا تأخذ مصالحها بعين الاعتبار.
من ناحية أخرى، فإن هذا التحول الخطير في السلوك الأمريكي يعزز موقف قوى دولية وإقليمية لطالما دعت إلى عالم متعدد الأقطاب، تُقيد فيه القوة الأمريكية الجامحة. فالصين وروسيا وإيران ودول جنوبية كثيرة تنظر إلى ما حصل على أنه تأكيد إضافي على الحاجة إلى إصلاح جذري في النظام الدولي، يُعيد الاعتبار للشرعية الدولية، ويضع حدودًا صارمة لاستخدام القوة خارج الأطر القانونية. وبالتالي، فإن ترامب – من حيث لا يدري – قد يسرّع من انهيار النظام الدولي الذي بُني على الهيمنة الأمريكية، ويدفع العالم إلى عصر جديد تُقلّص فيه واشنطن من قدرتها على فرض إرادتها.
كل هذا يعيدنا إلى النقطة المركزية في هذا التحليل وهو أن التهديد الحقيقي للأمن الإقليمي والدولي لم يكن إيران، بل كان الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل. فإيران، وإن كانت خصمًا سياسيًا وجيوستراتيجيًا لواشنطن وتل أبيب، لم تبادر إلى العدوان، بل كانت دائمًا في موقع الدفاع أو الرد. وحتى برنامجها النووي، رغم الجدل الكبير حوله، لم يُثبت بالدليل القاطع أنه ذو طابع عسكري حتمي. أما أمريكا، فقد قصفت وتدخلت وانتهكت السيادة، وهي لا تملك الآن أي مبرر قانوني أو أخلاقي لاستمرار تصوير نفسها كقوة حميدة.
إن العالم أمام مفترق طرق تاريخي، فإما أن يُحاسب ترامب على هذا التهور، وتُقيّد صلاحيات الرؤساء في خوض حروب أحادية، وإما أن تستمر دورة الفوضى الدولية التي تُغذّيها أمريكا كلما احتاجت إلى تصدير أزماتها الداخلية. في الحالتين، لقد بات من الواضح أن عصر “الاستثناء الأمريكي” يلفظ أنفاسه الأخيرة، وأن مراكز الثقل العالمية بدأت تتحوّل تدريجيًا نحو قوى تُطالب بنظام عالمي أكثر عدالة واتزانًا.
وفي الختام، فإن الضربة ضد إيران لم تكن فقط عدوانًا على دولة، بل كانت عدوانًا على القانون الدولي، وعلى فكرة النظام العالمي نفسها. إنها لحظة سقطت فيها الأقنعة، وتكشّف فيها من يُهدد السلام فعلًا، لا بالأقوال والخطابات، بل بالصواريخ والغطرسة.
كاتبة وباحثة عراقية
@fatimaaljubour
ندرك جيدا أنه لا يستطيع الجميع دفع ثمن تصفح الصحف في الوقت الحالي، ولهذا قررنا إبقاء صحيفتنا الإلكترونية “راي اليوم” مفتوحة للجميع؛ وللاستمرار في القراءة مجانا نتمنى عليكم دعمنا ماليا للاستمرار والمحافظة على استقلاليتنا، وشكرا للجميع
للدعم: