
د. عبدالناصر سلم حامد: الكوبالت في الكونغو: لعنة الذهب الأزرق بين البنادق والأسواق
د. عبدالناصر سلم حامد
في شرق الكونغو لا يلمع الكوبالت إلا بوهج البنادق. هنا تُستخرج الثروة من حفرٍ موحلة يحفرها نازحون بأيديهم، لتمرّ شاحنات «الذهب الأزرق» إلى مصانع التكنولوجيا الخضراء في الغرب، بينما يبقى الأطفال والنساء في خيام بلا ماء ولا مدارس. بعد عقود من النزاعات الدموية، جاء «اتفاق سلام المعادن» برعاية أميركية ووساطة قطرية نشطة، ليُعيد الأمل بتحويل الكوبالت من لعنة إلى شريان تنمية. لكن يبقى السؤال: هل تكفي أوراق التوقيع وحدها لإغلاق طرق التهريب وإسكات البنادق حقًا؟
جذور النزاع: من إبادة رواندا إلى حروب الحفر
يرتبط الصراع الممتد في كيفو بالإبادة الجماعية في رواندا عام 1994، حين فرّ آلاف من الهوتو إلى الكونغو حاملين مظالم الماضي وبنادقهم. هناك تأسست «قوات تحرير رواندا الديمقراطية» (FDLR) شوكةً في خاصرة كيغالي، فردّت رواندا بدعم «حركة 23 مارس» (M23) لحماية مصالحها ومسارات التهريب. يشير تقرير مجلس الأمن (يونيو/حزيران 2025) إلى وجود أكثر من 130 جماعة مسلّحة في شرق الكونغو وحده، بعضها يمتلك أسلحة ثقيلة وطائرات مسيّرة.
حفرٌ بلا أمل: إنسانية تحت التراب
في قرى «روتشورو» و«بيشوفو» قرب مناجم الكوبالت، يعيش الآلاف في خيام مهترئة بلا ماء ولا رعاية. تقول نازحة: «نحفر الأرض بأيدينا لنبيع حجارة بدولارات قليلة، لكن لا نرى أثرًا للسلام». يضيف شاب منجمي: «من يملك البندقية يملك الطريق، أما نحن فنحفر قبورنا بأنفسنا». تشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أكثر من خمسة ملايين نازح داخلي في شرق الكونغو، بينما تمر شاحنات الكوبالت عبر طرق موحلة تحرسها جماعات مسلّحة.
«سلام المعادن»: اتفاق فوق الورق
في 27 يونيو/حزيران 2025، وُقّع «اتفاق سلام المعادن» الذي ينص على انسحاب رواندي كامل خلال 90 يومًا، مقابل التزام الكونغو بوقف دعم «FDLR» ورواندا بوقف دعم «M23». يشمل الاتفاق قوة مراقبة مشتركة تحت إشراف أممي وفتح المناجم أمام الشركات الغربية وفق «سلاسل توريد نظيفة». ساعدت الدوحة في تقريب الأطراف مستفيدةً من تجاربها في دارفور وإفريقيا الوسطى. لكن «M23» — الطرف الأقوى ميدانيًا — لم توقّع حتى الآن، مما يبقي احتمال اختراق الاتفاق قائمًا.
من الحفرة إلى الأسواق: أين يذهب الذهب الأزرق؟
تبدأ الرحلة من حفريات عشوائية يديرها مزارعون بلا تراخيص. يُباع الخام بأسعار زهيدة، ثم ينقله وسطاء إلى مراكز تجميع قرب غوما حيث يُدمج المهرب بالرسمي. تمر الشاحنات عبر رواندا وأوغندا، وتختفي في شركات صغيرة في ملاذات ضريبية، ويصعب بعدها تتبّع المصدر الأصلي. يقدّر البنك الدولي أن أكثر من 60% من إنتاج الكوبالت يُهرب خارج القنوات الشرعية، ويُدرّ ملايين الدولارات أسبوعيًا لصالح شبكات التهريب.
الأسواق: حين يتحوّل «النظيف» إلى غطاء هش
الشركات الكبرى في أميركا وأوروبا ترفع شعار «سلاسل توريد نظيفة» لحماية سمعتها، لكنها غالبًا تعتمد وسطاء محليين، فتذوب مصادر الخام في شبكات معقدة يصعب مراقبتها. تجارب سيراليون وليبيريا، بل حتى النيكل في الفلبين، تثبت أن «سلام الموارد» دون رقابة صارمة يتحوّل إلى هدنة هشة. وتُذكّر دلتا النيجر كيف غذّت ثروة النفط نزاعات مستمرة حين غابت العدالة والشفافية.
سباق النفوذ: واشنطن وبكين على حافة الحفر
الكوبالت حجر زاوية لصناعة بطاريات السيارات الكهربائية. تسيطر الصين على أكثر من 65% من قدرات التكرير عالميًا عبر شركات عملاقة واتفاقيات طويلة الأمد داخل الكونغو. تسعى شركات أميركية وأوروبية كبرى لتأمين «عقود نظيفة» بعيدة عن الهيمنة الصينية، خاصة وسط ضغط الرأي العام في الغرب ضد «المعادن الدموية». ويراقب محللون في بكين أي خطوة أميركية لتثبيت «سلام المعادن» كجزء من سباق النفوذ الأخضر في قلب إفريقيا.
من يملأ الفراغ؟
حتى لو انسحبت رواندا رمزيًا، تبقى «M23» قادرة على العودة بواجهة جديدة وسلاح أقوى. الجيش الكونغولي ضعيف ومنقسم الولاءات، بينما تواجه قوات «مونوسكو» الأممية انتقادات بالعجز عن حماية القرى. أي فراغ قد يغري ميليشيات محلية، أو مرتزقة مثل «فاغنر»، أو شركات أمنية خاصة لحماية مصالح الشركات الكبرى. وفي الخلفية، تستفيد دول الجوار مثل أوغندا وبوروندي من استمرار التهريب، بينما تراقب كينيا الوضع بحذر لحماية ممر مومباسا.
ثلاثة سيناريوهات مفتوحة
الأفضل: انسحاب فعلي، نزع سلاح «M23»، نظام تتبّع صارم وتحويل العائدات إلى تنمية حقيقية.
الأرجح: انسحاب رمزي وبقاء الدعم الخفي وتهريب بلا رقابة.
الأسوأ: انهيار الاتفاق وعودة النزاع بمرتزقة جدد وطرق تهريب جديدة.
يشير البنك الدولي إلى أن أي تحسن في الرقابة قد يزيد الإيرادات الشرعية بنسبة 30% سنويًا، لكنها ستظل أرقامًا بلا قيمة إن لم تتحوّل إلى طرق ومدارس وماء نظيف.
حتى لا يبقى «سلام المعادن» حبرًا على ورق
يتطلب الاتفاق قوة فصل أممية–إفريقية بتفويض صارم، شهادات منشأ رقمية لا تقبل التزوير، مراقبة صارمة لنقاط التصدير الثانوية، عقوبات حقيقية على الشركات الدولية التي تغذي شبكات التهريب، مشاركة المجتمعات المحلية في العائدات على أرض الواقع، وتحفيز الجيران لكسر حلقة التهريب المستمرة.
خاتمة: منجم أمل أم لعنة متجددة؟
يبقى «سلام المعادن» اختبارًا مزدوجًا: هل ستنجح الأطراف المحلية والإقليمية والدولية في تحويل الذهب الأزرق من شريان دماء إلى فرصة حقيقية للتنمية؟ أم ستظل الشاحنات تغادر الحفر الموحلة لتُشعل البنادق كلما لمع بريقها في أسواق العالم؟ يبقى الجواب مرهونًا بمن يجرؤ على كسر الحلقة المفرغة ومَن يكتب عنها ويكشفها.
مدير برنامج شرق إفريقيا والسودان – فوكس السويد
باحث في إدارة الأزمات ومكافحة الإرهاب
ندرك جيدا أنه لا يستطيع الجميع دفع ثمن تصفح الصحف في الوقت الحالي، ولهذا قررنا إبقاء صحيفتنا الإلكترونية “راي اليوم” مفتوحة للجميع؛ وللاستمرار في القراءة مجانا نتمنى عليكم دعمنا ماليا للاستمرار والمحافظة على استقلاليتنا، وشكرا للجميع
للدعم: