
في عصرٍ يشهد انتقال اللاعبين الشباب بين الكثير من الأندية قبل أن ينجحوا في تثبيت أقدامهم في نهاية المطاف، تُعد مسيرة مارتن زوبيمندي مع ريال سوسيداد استثناءً واضحاً من ذلك، إذ انضم لاعب خط الوسط المدافع إلى أكاديمية النادي الباسكي وهو في الثانية عشرة من عمره، وتدرج في الفئات العمرية المختلفة، ليظهر لأول مرة في الدوري الإسباني الممتاز وهو في العشرين من عمره، وبالتحديد في المباراة التي فاز فيها ريال سوسيداد على ملعبه على خيتافي بهدفين مقابل هدف وحيد في 25 أبريل (نيسان) 2019.
استغرق الأمر ثلاث سنوات أخرى قبل أن يُثبت زوبيمندي نفسه ركيزةً أساسية في التشكيلة الأساسية لريال سوسيداد، وجاءت انطلاقته الأولى بفضل الإصابة التي تعرض لها آسيير إيارامندي. ونتيجةً لذلك، اكتسب زوبيمندي خبرات كبيرة وصقل مهاراته في مركز لاعب الوسط المدافع تحت قيادة المدير الفني لفريق الرديف في ريال سوسيداد آنذاك، تشابي ألونسو.
والآن، أصبح زوبيمندي ركيزة أساسية في صفوف المنتخب الإسباني، وخاض نحو 250 مباراة رسمية مع ناديه، وتحدث كثيراً -حسب تو كريستيان كارلسن على موقع «إي إس بي إن»- عن تأثير ألونسو عليه، وانهال بالإشادة على لاعب خط وسط ليفربول وريال مدريد السابق للدور الكبير الذي لعبه في تشكيل فهمه لمهام محور الارتكاز. لكن بدلاً من الانتقال إلى ريال مدريد للعب مجدداً تحت قيادة ألونسو، اختار الانضمام إلى آرسنال ليلعب تحت قيادة المدير الفني الإسباني ميكيل أرتيتا، بعد إتمام انتقاله إلى «المدفعجية» مقابل 60 مليون يورو.
يلعب زوبيمندي بشكل أساسي محور ارتكاز تقليدياً، يتحرك أمام خط الدفاع وخلف لاعبي خط الوسط الذين تكون لديهم مهام هجومية أكبر، ويقوم زوبيمندي بدور كبير في النواحي الدفاعية والهجومية على حد سواء. فعندما يفقد فريقه الكرة، يُضفي زوبيمندي توازناً دفاعياً على أداء فريقه من خلال تمركزه الرائع وتحركاته الواعية، حيث يحمي خط دفاع فريقه ويتوقع الخطر قبل حدوثه.
وفي أثناء استحواذ فريقه على الكرة، يؤدي زوبيمندي دوراً محورياً في بناء اللعب، حيث يتحكم في إيقاع ورتم المباريات بتمريراته المتقنة، سواءً كانت تمريرات بينية تخترق دفاعات الفرق المنافسة أو تمريرات للأجنحة على الأطراف.
وتحت قيادة إيمانويل ألغواسيل، المدير الفني السابق لريال سوسيداد الذي رحل عن النادي في مايو (أيار) الماضي، كان زوبيمندي يلعب غالباً محور ارتكاز وحيداً وفق طريقة لعب 4-1-4-1 أو 4-3-3. لكن في وقت سابق من مسيرته الكروية (وحتى في بعض الأحيان في الآونة الأخيرة)، كان يلعب إلى جانب لاعب خط وسط مدافع ثانٍ. وفي مثل هذه الحالات، يحصل زوبيمندي على حرية أكبر في النواحي الهجومية، حيث يلعب كأنه لاعب خط وسط مهاجم يتحرك من منطقة جزاء فريقه حتى منطقة جزاء الفريق المنافس.
وبفضل ذكائه الخططي والتكتيكي، حصل زوبيمندي على ثقة المدير الفني لمنتخب إسبانيا، لويس دي لا فوينتي. لعب زوبيمندي نفس الدور الذي كان يلعبه رودري بعدم تعرض نجم مانشستر سيتي للإصابة، وشارك زوبيمندي في 19 مباراة مع منتخب إسبانيا، حيث كان جزءاً من الفريق الذي فاز بدوري الأمم الأوروبية عام 2023 وتوِّج بلقب يورو 2024 العام الماضي بعد الفوز على إنجلترا في النهائي.
نقاط القوة
إن وصف زوبيمندي بأنه مجرد «لاعب تكتيكي» يقلل كثيراً من قدراته الكبيرة ومهاراته الواسعة. فرغم ذكائه الشديد في فهم مجريات المباريات، فإنه يتميز أيضاً بمجموعة من القدرات الفنية التي تظهر فوراً عند التعامل مع الكرة. ربما لا يحتل زوبيمندي الصدارة في الإحصائيات والتحليلات، لكن ما يميزه عن أقرانه هو قدرته على أداء كثير من المهام داخل المستطيل الأخضر بكل إتقان وبشكل مستمر.
يتميز زوبيمندي بقدرته على
تمرير الكرة بسرعة ودقة تحت الضغط. ويعود الفضل في ذلك إلى لمسته الأولى الرائعة، والتحكم الجيد في جسده -مما يسمح له بالتحرك بسلاسة في أي اتجاه- وفهمه الممتاز لتحركات زملائه الهجومية. ونظراً إلى أنه يمتلك دائماً صورة واضحة في ذهنه للتمريرة التالية حتى قبل تسلمه الكرة، فإنه يساعد فريقه على مواصلة الاستحواذ على الكرة ويضمن استمرار بناء اللعب الهجومي دون أي تعطيل. في الواقع، يبدو زوبيمندي مناسباً تماماً لأي فريق يسعى للاستحواذ على الكرة والتحكم في زمام ورتم المباريات. ومن ناحية الإبداع، فإن الأمر لا يقتصر على التمريرات الحاسمة فحسب، بل يمتد إلى قدرته على استخراج الجديد من مستودع موهبته بشكل مستمر. وكلاعب خط وسط مدافع، تكمن قيمته الحقيقية في التمريرات القصيرة والحاسمة التي تساعد فريقه على التفوق والخروج من المناطق المزدحمة، وتجنب الضغط والحفاظ على الإيقاع.
وفي حالة عدم الاستحواذ على الكرة، يُظهر زوبيمندي قدرة هائلة على قراءة المباريات ويتمركز بشكل رائع. إنه يضغط بكل قوة على المنافس، ويتوقع الخطر قبل حدوثه، ويُعدّل ويغيِّر تحركاته وفقاً لما يقوم به الفريق المنافس. وحتى في موسم مخيِّب للآمال نسبياً وفقاً لمعايير ريال سوسيداد الأخيرة، لا يزال زوبيمندي أحد أكثر لاعبي خط الوسط فاعلية في الدوري الإسباني الممتاز فيما يتعلق بإفساد الهجمات وقطع الكرات.
يتخذ زوبيمندي قرارات سريعة، ولديه قدرة هائلة على التحول بسرعة للضغط على المنافس، ويفعل ذلك دون تدخلات عنيفة غير ضرورية: ارتكب 1.1 خطأ فقط لكل 90 دقيقة (وهو أمر جيد للاعب خط وسط مدافع)، كما لم يحصل على بطاقة حمراء أبداً خلال مسيرته على المستوى الاحترافي. ومع ذلك، يرتكب زوبيمندي بعض الأخطاء التكتيكية المطلوبة في بعض الأحيان لتعطيل اللعب أو إفساد هجمات خطيرة على فريقه قبل حدوثها.
كيف يمكنه التحسن؟
على الرغم من أن زوبيمندي يُصنف من بين لاعبي النخبة في مركزه على أنه لاعب خط وسط مدافع كلاسيكي يركز بشكل أساسي على توزيع الكرات مع أداء مهامه الدفاعية، فلا يزال هناك مجال للتطور والتحسن فيما يتعلق بالتمريرات الأمامية والمفتاحية، حتى لو لم يكن هذا هو السبب الرئيسي لتعاقد آرسنال معه. وكما هو الحال مع أي وافد جديد إلى الدوري الإنجليزي الممتاز، سيحتاج زوبيمندي إلى التكيف مع القوة البدنية والإيقاع السريع لكرة القدم الإنجليزية. لكن نظراً إلى خبرته الواسعة على مستوى الأندية والمنتخبات، فلا يوجد سبب وجيه للشك في قدرته على التأقلم سريعاً.
كان هناك اهتمام كبير من جانب ليفربول بضم زوبيمندي الصيف الماضي، لكنَّ اللاعب قرر البقاء في ريال سوسيداد. كما أشارت وسائل إعلامية إلى أن مانشستر سيتي كان يرغب في التعاقد مع زوبيمندي ليكون بديلاً محتملاً لرودري. كما أشارت تقارير إلى احتمال انتقاله إلى ريال مدريد، خصوصاً مع تولي ألونسو المسؤولية، بينما أفادت تقارير أخرى بأن بايرن ميونيخ كان يراقب وضع اللاعب عن كثب كجزء من خططه لإعادة بناء خط وسطه، لكن اللاعب انتقل في نهاية المطاف إلى ملعب الإمارات.
وقال زوبيمندي للموقع الرسمي لآرسنال: «هذه لحظة فارقة في مسيرتي، إنها الخطوة التي كنت أبحث عنها والتي أردت اتخاذها، بمجرد أن تطأ قدمك هنا، تدرك مدى عظمة هذا النادي وهذا الفريق». وأضاف: «وضعت آرسنال نصب عينيّ لأن أسلوب لعبهم يناسبني، لقد أظهروا إمكاناتهم مؤخراً، والأفضل لم يأتِ بعد».
ويثق الإسباني ميكيل أرتيتا، مدرب آرسنال، في قدرة زوبيمندي على تعزيز خيارات خط الوسط، بعد انتهاء عقد توماس بارتي ورحيل جورجينيو. وقال أرتيتا: «مارتن لاعب سيضيف جودةً وذكاءً إلى فريقنا، سينسجم بشكل مثالي مع الفريق، ويمتلك جميع المقومات ليكون لاعباً مهماً». وتابع: «المستوى الذي قدمه باستمرار خلال المواسم القليلة الماضية مع النادي والمنتخب هو بالضبط ما يجعلنا متحمسين للغاية لانضمامه إلينا، نرحب جميعاً بمارتن وعائلته في النادي». ونشأ زوبيمندي في أكاديمية سوسيداد، وأسهم في الفوز بلقب كأس ملك إسبانيا 2019 – 2020، بعد الفوز في النهائي على أتلتيك بلباو. كما أسهم زوبيمندي في إنهاء سوسيداد موسم 2022 – 2023 من الدوري الإسباني في المركز الرابع، وهو أعلى مركز للفريق في الدوري، ليتأهل إلى دوري أبطال أوروبا للمرة الثالثة فقط في تاريخه.
ما الدور الذي سيلعبه مع آرسنال؟
تجب الإشارة إلى أن جميع الظروف مهيَّأة تماماً في الوقت الحالي لنجاح زوبيمندي مع آرسنال. فمن منظور كروي بحت، أثبت زوبيمندي نفسه على أعلى مستوى بطلاً أوروبياً مع منتخب إسبانيا، ومن خلال تقديمه أداءً قوياً وثابتاً في الدوري الإسباني الممتاز. يبلغ زوبيمندي من العمر 26 عاماً، ويتميز بالنضج الكروي والفهم الواضح تماماً لمهام مركزه.
سيوفر محور الارتكاز الإسباني قوة استراتيجية ودفاعية هائلة في قلب خط وسط آرسنال، وهو ما يسمح للاعبين من أمثال ديكلان رايس بالتقدم إلى الأمام. وعلاوة على ذلك، فإن قدرة زوبيمندي على اللعب بمفرده كمحور ارتكاز واحد سيمنح أرتيتا خيار الاعتماد على كل من ديكلان رايس ومارتن أوديغارد كلاعبَي خط وسط لديهما مهام هجومية.
وعلاوة على ذلك، هناك نقطة أخرى تصب في صالح زوبيمندي، وهي أنه سيعمل تحت قيادة مواطنه ميكيل أرتيتا، وهو باسكيّ أيضاً مثل زوبيمندي، وهو الأمر الذي سيزيل أي حواجز لغوية محتملة أو اختلافات في الفهم الخططي والتكتيكي. وسيمنح قدوم زوبيمندي في وقت مبكر أرتيتا الوقت للعمل معه في فترة الاستعداد للموسم الجديد قبل مباريات افتتاحية صعبة في الدوري الإنجليزي الممتاز بالموسم المقبل. ويلعب آرسنال أمام مانشستر يونايتد وليفربول ومانشستر سيتي ونيوكاسل يونايتد في أول ست مباريات له في الموسم.