
إيهاب مقبل: حل وسط ممكن بين قسد ودمشق وأنقرة: “النموذج الروسي اللامركزي المرن”!
إيهاب مقبل
يمثل الصراع في شمال سوريا واحدًا من أكثر الملفات تعقيدًا في الشرق الأوسط، إذ تتداخل مصالح محلية وإقليمية ودولية متعددة. تتصارع في هذه المنطقة عدة أطراف رئيسية، أهمها قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، والحكومة السورية، وتركيا، وكل منهم لديه مطالب وأهداف تختلف وتتعارض مع الآخرين. لذلك، أصبح من الضروري إيجاد حل عملي ومتوازن يلبي احتياجات هذه الأطراف ويمنع اندلاع صراع جديد يزيد من معاناة السوريين، عربًا وكُردًا، ويهدد استقرار المنطقة بأكملها.
في هذا المقال، أطرح رؤية مبنية على ما أسميه “النموذج الروسي اللامركزي المرن”، مستوحى من تجارب روسيا الاتحادية مع جمهورياتها المتعددة الأعراق واللغات، والتي نجحت إلى حد بعيد في التوفيق بين وحدة الدولة وخصوصيات الأقاليم.
خلفية الأزمة وأهمية الحل
على مدار العقد الماضي، فرضت قسد نفسها كقوة عسكرية وإدارية مركزية في شمال وشرق سوريا، بدعم أميركي، ما أدى إلى وجود واقع موازٍ للدولة السورية، مع وجود تهديد أمني مستمر لتركيا التي ترى في قسد امتدادًا لحزب العمال الكردستاني المصنف إرهابيًا لديها.
الحكومة السورية الجديدة، من جهتها، تعاني من فقدان سيطرتها على أجزاء واسعة من البلاد، وترغب في استعادة وحدتها وسيادتها الكاملة. في الوقت ذاته، لا يمكن تجاهل أهمية الدور التركي، الذي يسعى لضمان أمن حدوده ومنع إنشاء كيان كردي مسلح على حدود تركيا.
هذا المشهد المتشابك يفرض البحث عن صيغة وسطية، تمنع التصعيد وتحافظ على مصالح الأطراف، وتحمي الاستقرار المحلي.
ما هو النموذج الروسي اللامركزي المرن؟
يعتمد الاتحاد الروسي نظامًا فدراليًا يضم عدة جمهوريات ذات خصوصيات ثقافية وعرقية متنوعة، ولكن مع مركزية سياسية قوية في موسكو. النموذج اللامركزي المرن يعني إعطاء هذه الجمهوريات صلاحيات واسعة في مجالات مثل الثقافة، والتعليم، والقضاء المحلي، مع بقاء الأمن والسيادة والسياسات الكبرى بيد الحكومة المركزية.
مثال على ذلك:
تتارستان: تحكم ذاتيًا يتمتع بصلاحيات موسعة مع التزام كامل بسيادة روسيا.
الشيشان: إدارة أمنية محلية قوية تحت قيادة موالية لموسكو بعد سنوات من الصراع الدموي.
داغستان: نظام إداري مرن يعترف بالتنوع العرقي ويتيح للكيانات المحلية دورًا أكبر في الشؤون اليومية.
كيف يمكن تطبيق هذا النموذج في سوريا؟
1. إعادة دمج قسد في الدولة: يُعاد تسمية قسد لتصبح “قوات حرس حدود شرقي”، وتدمج تدريجيًا ضمن الجيش السوري الرسمي، مع صلاحيات أمنية محلية محدودة تضمن الأمن والاستقرار. ينبغي أن تكون وظيفة قسد كـ”قوات حرس حدود شرقي” محددة وواضحة، وهي تأمين الحدود الشرقية لسوريا.
2. توسيع الإدارة المحلية: تُمنح المجالس المحلية في المناطق الخاضعة لقسد صلاحيات إدارية واسعة في التعليم، والثقافة، والخدمات، مع ضمان مشاركة كافة المكونات القومية في الحكم المحلي ضمن إطار القانون السوري.
3. إدارة مشتركة للموارد: تُشكّل هيئة وطنية مشتركة تضم ممثلين عن الحكومة السورية والإدارة المحلية (المناطق التي كانت تحت سيطرة قسد)، وربما مراقبين دوليين محايدين (من سويسرا والنرويج وفنلندا والنمسا وأيرلندا) لضمان الشفافية والحياد. هذه الهيئة تتولى إدارة الموارد النفطية والطبيعية في شمال وشرق سوريا بشكل يراعي مصالح جميع الأطراف. يهدف هذا النظام إلى تحقيق ما يلي:
تقاسم عادل للعائدات: توزع الإيرادات المتأتية من النفط والمعادن والموارد الأخرى بنسبة تقارب 60% للحكومة السورية لتغطية النفقات العامة والخدمات الوطنية، و35% للمناطق المحلية التي تنتج هذه الموارد، وذلك لضمان تمويل البنى التحتية والتنمية المحلية، بينما تخصص نسبة 5% للرقابة الدولية وضمان الشفافية.
تعزيز الاستثمار والإعمار: توفر الهيئة إطارًا واضحًا للاستثمار المحلي والأجنبي، وتعمل على تنسيق جهود إعادة الإعمار بما يضمن استفادة السكان المحليين من فرص العمل والخدمات.
منع النزاعات حول الموارد: عبر الإدارة المشتركة والشفافة، يتم تفادي الصراعات المحتملة التي قد تنشأ نتيجة استغلال الموارد دون اتفاق، مما يخفف التوترات بين دمشق والمناطق المحلية ويدعم الاستقرار.
ضمان استدامة الموارد: تعتمد الهيئة سياسات بيئية واقتصادية تحافظ على استدامة الموارد الطبيعية وتحترم حقوق الأجيال القادمة.
4. الانسحاب من المناطق الحساسة: تنسحب قوات قسد من المناطق التي تعتبرها تركيا حيوية لأمنها وهي (منبج، وتل رفعت، وعين العرب “كوباني”)، ويتم استبدالها بقوات حرس حدود سورية مدنية بقيادة مركزية مع ضمانات روسية.
الاختلاف الجوهري عن النموذج الأميركي في المفاوضات الحالية
النموذج الأميركي الحالي في المفاوضات يركز بشكل كبير على حل سياسي يتضمن دمج قسد ضمن الدولة السورية بشكل مركزي، مع إبقاء دعم عسكري واقتصادي أمريكي لها أثناء هذه المرحلة الانتقالية، لكنه يفتقر إلى آليات واضحة لضمان تقبل تركيا أو دمشق بشكل فعلي ومستدام.
كما يعتمد على دور أميركي غير ثابت، حيث تتغير سياسات واشنطن بسرعة، مما يزيد من حالة عدم اليقين ويضعف الثقة بين الأطراف.
في المقابل، يوفر النموذج الروسي اللامركزي المرن:
إطارًا عمليًا ومثبتًا لإدارة التنوع داخل دولة واحدة، مستندًا إلى تجارب واقعية.
دورًا أمنيًا واضحًا ومباشرًا لروسيا كضامن للاتفاق، ما يطمئن دمشق وأنقرة على حد سواء.
تسوية متوازنة تراعي المطالب الأمنية التركية بتراجع وجود قسد في المناطق الحدودية، مع الحفاظ على حقوق ومكتسبات قسد محليًا.
مرونة أكبر في توزيع السلطات، مما يقلل من احتمالات الصدام.
فوائد النموذج لكل طرف
الحكومة السورية تستعيد سيادتها على كامل أراضيها دون خوض حرب استنزاف طويلة، وتحصل على مصدر دخل من الموارد الطبيعية.
قسد تحافظ على دور سياسي وإداري محلي مع اعتراف رسمي، وتضمن حماية أمنية لمناطقها، وتتجنب الصدام مع الجيش السوري وتركيا.
تركيا تحصل على ضمانات أمنية حقيقية بإبعاد التهديد الكردي المسلح عن حدودها، وتضمن انسحاب قسد من المناطق التي تراها حيوية.
الدور الأميركي: الواقع والشكوك
على الرغم من الدعم الأميركي الواسع لقسد، إلا أن دور الولايات المتحدة في هذه المفاوضات يبقى غامضًا، إذ تتناقض مواقفها بين استمرار التمويل العسكري والسياسي لقسد، والمطالبة بدمجها في الدولة السورية.
هذا التناقض يُضعف ثقة الأطراف المعنية، ويجعل من الدور الروسي والتركي حجر الزاوية في أي تسوية مستقبلية، خاصة مع الانسحاب الأميركي التدريجي من المنطقة.
ماذا لو فشل هذا الحل؟
في حال فشل اعتماد النموذج الروسي اللامركزي المرن، ستتجه تركيا لاستخدام القوة العسكرية كخيار وحيد لحماية أمنها، مما سيؤدي إلى تصعيد واسع في شمال سوريا، مع تبعات إنسانية وأمنية خطيرة.
من حق تركيا أن تخشى على أمنها القومي، خاصة في ظل وجود تنظيمات مرتبطة بحزب العمال الكردستاني (PKK) على حدودها الجنوبية، وهو ما تعتبره تهديدًا وجوديًا. وقد عبّرت أنقرة مرارًا عن رفضها لأي كيان شبه مستقل قرب حدودها، معتبرة ذلك خطًا أحمر لا يمكن تجاوزه.
تتركز أهمية هذا التصعيد في ثلاث مناطق رئيسية تعتبرها أنقرة خطوطًا حمراء:
تتركز أهمية هذا التصعيد في ثلاث مناطق رئيسية تعتبرها أنقرة خطوطًا حمراء لأمنها:
عين العرب (كوباني):
تحمل رمزية كبيرة لدى قسد، لكنها تقع مباشرة على الحدود التركية، وتعتبرها أنقرة معقلًا استراتيجيًا لوحدات حماية الشعب (YPG). السيطرة عليها مسألة أمن قومي لتركيا.
منبج:
مدينة ذات موقع جغرافي بالغ الحساسية تربط شرق الفرات بغربه، وتعد نقطة عبور حيوية لأي تحركات عسكرية أو لوجستية. وجود قسد فيها يُنظر إليه في أنقرة كتهديد مستمر لأمن المناطق الحدودية.
تل رفعت:
تُعد بوابة عسكرية مهمة شمال حلب، وتُتهم قسد باستخدامها كمنصة لاستهداف القوات التركية والفصائل المتحالفة معها في مناطق درع الفرات وعفرين.
في حال قررت تركيا شن هجوم جديد يشمل هذه المناطق، فمن المرجّح أن يشهد الشمال السوري:
نزوح عشرات الآلاف من المدنيين نحو الجنوب أو العراق.
مواجهات دامية بين القوات التركية والفصائل المتحالفة معها من جهة، وقسد من جهة أخرى.
توترًا روسيًا–أمريكيًا جديدًا في ظل تضارب الأجندات العسكرية والسياسية في تلك الجغرافيا.
احتمال تدخل دمشق عسكريًا أو سياسيًا في تلك المناطق، مما يعقّد الميدان أكثر.
بالتالي، فإن فشل التوافق على نموذج لامركزي مرن قد يفتح الباب أمام مرحلة أكثر دموية وتعقيدًا، ويطيح بأي أمل بعودة تدريجية للاستقرار.
الخلاصة
النموذج الروسي اللامركزي المرن ليس حلاً كاملاً أو مثالياً، لكنه قد يكون الأساس الأكثر واقعية والوحيد القادر على تحقيق توازن مقبول بين مختلف الأطراف في شمال سوريا.
هذا النموذج يتيح إدارة التنوع بمرونة، ويحافظ على وحدة الدولة السورية، ويمنح كل طرف مكاسب نسبية، ويجنب المنطقة صراعات طويلة قد تؤدي إلى كارثة إنسانية أكبر.
في ظل كل ما سبق، يبدو أن الحوار الصادق والتنازلات المدروسة هي السبيل الوحيد للخروج من هذا المأزق المعقد.
انتهى
ندرك جيدا أنه لا يستطيع الجميع دفع ثمن تصفح الصحف في الوقت الحالي، ولهذا قررنا إبقاء صحيفتنا الإلكترونية “راي اليوم” مفتوحة للجميع؛ وللاستمرار في القراءة مجانا نتمنى عليكم دعمنا ماليا للاستمرار والمحافظة على استقلاليتنا، وشكرا للجميع
للدعم: